لبنانُ حاليًّا على خطِّ التماس بين حلِّ مشاكلِه سلميًّا وحضاريًّا فيَحفَظُ وِحدتَه، أَو حلِّها عسكريًّا وهمجيًّا فيتبَعثرُ جغرافيًّا. ما عاد الرهانُ بين اللبْننةِ والتدويل: اللبْننةُ وراءَنا والتدويلُ أمامَنا، بل بين السلمِ والحرب. من جهتِنا لا نخافُ الحربَ، ونُفضِّلُ السِلمَ ونعملُ له. ومَن يريدُ أن يَـجرَّنا إلى الحربِ عليه أن يُدركَ أنْ ليس هو مَن يُقرِّرُ نتيجتَها ونهايتَها.
ليس هذا القولُ تهديدًا بل حصيلةُ مراجعةٍ بين الـمُنطلَقِ والـمُنتهى لـجميعِ الحروبِ التي دارت في لبنان منذ 1975 إلى اليوم. والمراجعةُ تُظهِر واقعَين: الأفرقاءُ اللبنانيّون الذين تَقاتلوا في ما بينَهم تَصالحوا بعدما مات من مات. والأفرقاءُ اللبنانيّون الّذين قاوموا، عن حقٍّ، اعتداءً غريبًا أو احتلالًا اضْطرّوا إلى قَبولِ شروطٍ قاهرةٍ لوقفِ الحربِ: الجبهةُ اللبنانيّةُ قَسَت على نفسِها وتَجرَّعت دخولَ القوّاتِ السوريّةِ سنةَ 1976. منظمةُ التحريرِ الفِلسطينيّةُ أذْعنَت وسلّمَت ما بَقي من سِلاحِها وانسحبَت من لبنانَ سنة 1982. إسرائيل أُكرِهَت على مغادرةِ الجنوب سنةَ 2000 من دون اتّفاق سلام. سوريا أُجِبرت على الانسحابِ سنةَ 2005 تنفيذًا للقرارِ الدوليِّ 1559. وحزبُ الله انتصرَ على نفسِه ورَحّب بالقرارِ 1701 لوقفِ حربِ 2006. وبالتالي، يَصلُحُ أن يُردِّدَ الجميعُ مع السيد حسن نصرالله: "لو كنتُ أعلم"...
أنا أعلمُ أنَّ إسرائيلَ وسوريا دَخلتا سابقًا إلى لبنانَ المنقسِمِ، وانسَحبتا مِن لبنان الموحَّدِ. لكنّهما، إذا عادتا مرّةً أُخرى، فلن تَنسحِبا من لبنانَ المبعثَر. ضمانُ عدمِ عودتِهما هي وِحدةُ لبنان. وِحدةُ لبنان أقوى من السلاحِ، ومِن سلاحِ حزبِ الله تحديدًا. وسلاحُ حزبِ الله الذي كان يُفترضُ أن يكونَ عنصرَ الوِحدةِ الجديدةِ بعد تحريرِ الجنوب سنةَ 2000، تحوّل، مع الأسف، حالةً تقسيميّةً في البلادِ ومُشجِّعةً الآخرينَ على التفكيرِ في ما إذا كانت وِحدةُ لبنان مسألةً فيها نَظر. وِحدةُ لبنان لم تَعد تَحصيلَ حاصلٍ، ولا هي قائمةٌ. عددُ المؤمنين بها من كلِّ الطوائف قَلَّ، وسارعوا إلى "وقفِ العدّ" لئلّا يُصبحوا أقليّة.
تَوحّدَ لبنانُ سنةَ 1920 ليكون بلدًا حرًّا ومستقلًّا وديمقراطيًّا وحضاريًّا. قبلَ الدستورِ والطائفِ الميثاقِ، الحريّةُ هي ما تَحفظ الشراكةَ الوطنيّة. لا قيمةَ للشراكةِ خارجَ مُندرجاتِ الحريّة، ولا قيمةَ للحريّةِ خارجَ كنفِ الديمقراطيّة. خلافَ ذلك تَفقِدُ وِحدةُ لبنان مُبرِّرَ وجودِها. قبل توحيدِه كان لبنان قِبلةَ الحضارةِ في هذا الشرقِ، فكيف أصبح، بعد توحيدِه، علامةَ الجهالةِ؟ هل العددُ فَعل بنا ذلك؟
إذا كان التقسيمُ حُلمَ بعضِ الشعوبِ، فهو كابوسٌ بالنسبةِ إلينا وتحاشينا تشريعَه حتّى الآن. زارنا مرّاتٍ وطَردْناه، لكنّه يَعود ُكلما تَنشَّقَ رائحةَ سلاحٍ أو تناهى إليه خبرُ إصابةِ الوِحدةِ بوباء. الوِحدةُ ليست فعلَ إيمانٍ فقط، بل مشروعُ حياة. الحياةُ في لبنانَ معطّلةٌ. لذلك يسألُ اللبنانيّون عن مدى وجودِ أملٍ بعدُ بإنقاذِ وِحدةِ كيانِ لبنان ـــ على الأقلِّ وِحدتِه المركزيّة ــــ في ظلِ سقوطِ الدولة المركزية؟ لو أردنا وِحدةَ القطيع ما كنا أنْشأنا لبنانَ الكبير، وما كنا رَفضْنا كلَّ أشكالِ الوَحَدات الأخرى. الخطورةُ اليوم أنَّ المطروحَ على اللبنانيّين ليس مدى قَبولِـهم بالانضمامِ إلى وِحدةٍ سوريّةٍ أو عربيّةٍ، بل مدى قَبولِـهم بالانضمامِ إلى بعضِهم البعض.
هكذا صارت المثالةُ أن نختارَ بين لبنانَ الكبير والمتصرفيّةِ والقائمقاميّتين. هزيمةٌ أن نعودَ إلى المتصرفيّةِ، وخيبةٌ أن نرجِعَ إلى القائمقاميّتين، وصعبٌ أن نَبقى في لبنانَ الكبير في حالتِه الحاضرة. للوِحدةِ المركزيّةِ شروطٌ ومقتضياتٌ وأصولٌ وآداب، وهي غيرُ محترَمة. كان يُمكن التغاضي عن عدمِ احترامِ آدابِ الوِحدةِ لو حَصل الأمرُ سهوًا أو خطأً عابرًا عَبرَ المئةِ سنةٍ من عمرِ دولةِ لبنان الكبير، لكنَّه يَحصُل كلَّ يومٍ عن سابقِ تصوّرٍ وتصميم. هذا واقعٌ يَستحيل القَبولُ به، فحياتُنا وحياةُ أولادِنا وأحفادِنا وأجيالِنا ليست أضاحي على مذبحِ حروبٍ غابرةٍ وفتوحاتٍ داثرةٍ وعقائدَ دخيلةٍ على مجتمعِنا، بل هي برسمِ الحياةِ والفرح والإبداعِ والسلام.
والأخطرُ من ذلك أنَّ القضاءَ على وِحدةِ لبنان يَتمُّ باسمِ الدستورِ، والدستورُ منهم بَراء. وباسمِ حقوقِ الطوائفِ والمذاهبِ، وحقوقُ الطوائفِ والمذاهبِ منهم بَراء، وباسمِ العددِ، والعددُ لا يَصنَعُ أمّة. قيمةُ المواطنين بولائهم لدولة لبنان وبإخلاصهم للشراكة الوطنية. الأقليّةُ هي التي تخرج عن الدولة ولو كانت أكثريّةً، والأكثريّةُ هي التي تبقى في كنفِ الدولةِ ولو كانت أقليّة.
غالبيّةُ الشعوبِ التي، في الشرق والغرب، مرت في ما نمر فيه اليوم، اختارت التقسيم (الهند، باكستان، بنغلاديش، قبرص، صربيا، كرواتيا، تشيكيا، أوستيا الجنوبية، السودان، إقليم كردستان، إلخ...). من جهتنا رَفضنا هذا الخيارَ لأنَّ قدَرَنا وإرادتَنا أن نبقى معًا نَشهَدُ في الشرقِ والعالم للرسالتَين: رسالةُ الأديان، ورسالةُ الحريّةِ الحضاريّة. من هنا أَنَّ المسَّ بالكيانِ اللبنانيِّ جريمةٌ يُعاقب اللهُ عليها لا الشعبُ فقط. ربما كان يُفترض بدولةِ لبنان أن تَنشأ فدراليّةً سنةَ 1920 لأنها جَمعت مناطقَ وجماعاتٍ من مشاربَ مختلفةٍ. هكذا فَعلت دولٌ عديدةٌ في أوروبا الشرقيّةِ والوسطى حين كانت تتكوّن فدراليًّا لا مركزيًّا. لو فعلنا ذلك لرّبما كانت وِحدُتنا أمتنَ ووفَّرنا مشاكلَ كثيرة.
لقد تَبيّن مع الزمنِ أنَّ الفكرةَ اللبنانيّةَ، المجسَّدةَ في لبنانَ الكبير، هي الفكرةُ الوحيدةُ القابلةُ التطبيقِ، ولو بتضحياتٍ كبيرة. في حين أَنَّ الفكرتَين السوريّةَ والعربيّةَ غيرُ قابلتين التطبيقَ في دولةٍ واحدة. لكنَّ البعضَ يُريد أن يُحقِّقَ سنةَ 2021 ما كان غيرُه يَنوي تحقيقَه سنةَ 1975. فما نَشهدُه اليومَ هو مشروعُ إسقاطِ "الفكرةِ اللبنانيّةِ الممكنةِ" وجعلِها مستحيلةَ التطبيقِ على غرارِ الفكرتين الوِحدويّتين السوريّةِ والعربيّة. واقعٌ يَضعُ اللبنانيّين أمامَ مستحيلات. الصراعُ مع المستحيلِ يؤدّي إلى البحثِ عن أيِّ ممكنٍ آخَر خارجَ الممكنِ المثالي.
هناك مَن يدفعُ اللبنانيّين الّذين ناضلوا وقاوموا من أجلِ لبنانَ الواحدِ إلى اعتمادِ المنطقِ التالي: طالما أنَّ سعرَ الوِحدةِ مُكلِفٌ ومردودَها قليلٌ، من الأفضلِ الانكفاءُ إلى وطنٍ سِعرُه أقلُّ ومردودُه أكبر. ظنّي أن هذا المنطقَ لا
يَنسجمُ مع التضحيات التي قدّمناها دفاعًا عن السيادة والاستقلال. وجُلُّ ما يُمكنُ الإقدامُ عليه هو تعديلُ البنيَةِ الداخليّةِ من دولةٍ مركزيّةٍ حصريّةٍ إلى أخرى لامركزيّةٍ موسَّعةٍ، والعملُ على اعتمادِ الحيادِ وعقدِ مؤتمرٍ أمميٍّ خاصٍّ بلبنان ليبقى لنا لبنانٌ خاصٌّ بنا.