في ظلّ غياب النصوص الدستوريّة الحاسمة وفي ظلّ الخلاف المستحكم حول تفسير النصوص القائمة، وفي ظلّ عقدة الخوف وانعدام الثقة بين القوى السياسية اللبنانية وفي ظلّ نزعة البعض لاستعادة أمجاد سابقة، أو طموح البعض للاستقواء بالخارج وليّ ذراع مواطنيهم ورفض الإقرار لهم بالحقّ بالمواطنية التامة والحقّ بالمساواة بين المواطنين على أساس وطني كمواطنين في دولة وليسوا أفراداً في طائفة، في ظلّ كلّ ذلك فإنّ الأزمة اللبنانية القائمة والتي يظهر منها رأس جبل الجليد تحت عنوان «العجز عن تشكيل الحكومة» في ظلّ كلّ ذلك نرى أنّ وقف انهيار لبنان ووقف اندفاعه إلى جهنّم أمر يكاد يستلزم معجزة لا يملك مفاتيحها البشر! إن لم يغيّر اللبنانيون أو على الأقلّ مَن بيدهم مقاليد الأمر سلوكهم وأداءهم.
فاذا أردنا أن نحتكم للدستور ونبحث فيه عن حلّ طالعنا مَن يفسّره بتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان، ثم دخلنا في تفسيرات متناقضة بحاجة إلى حكم أو محكمة غير موجودة للبتّ بالنزاع حوله خاصة أنّ مجلس النواب الذي صادر صلاحية التفسير الدستوري وانتزعها من المجلس الدستوري الذي أولاه اتفاق الطائف الأمر، أنّ مجلس النواب هذا عجز حتى عن تفسير المادة 95 ولم يلبّ طلب رئيس الجمهورية في الأمر وكانت الذريعة أنّ التفسير يزيد الوضع اللبناني تفسّخاً وشرذمة.
من هنا بات تشكيل الحكومة رهن مفاهيم دستورية مختلقة لا يقبل بها منطق قانوني، ولا نجد معها أنّ أحداً يجرؤ على الوقوف بوجه الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة ويقول له إنّ الدستور الذي لم ينص على مهلة محددة لتشكيل الحكومة إذا استنفدت ولم تشكل يكون عليه الاعتذار، ولا نجد أنّ مجلس النواب المصادر صلاحية تفسير الدستور يتصدّى للأمر ويستنكف عن العمل بالمنطق وبالمهلة المعقولة التي قد تدور بين الشهر أو الشهرين كحدّ أقصى يكون الحقّ بعدها للأكثرية النيابية أن تسحب التكليف عبر رئيس الجمهورية، ومع هذا العجز أو القصور أو التخلي نجد أنفسنا في وضع يتيح للرئيس المكلف متسلّحاً بالنقص في النص الدستوري، أن يقبض على التكليف ويمتنع عن تشكيل الحكومة مدة ولاية مجلس النواب برمّتها أيّ 4 سنوات!
أما إن أردنا الركون إلى حسن النيّة ووجوب التعاون بين المنوط بهم أمر الحكم ووجهنا بعقدة الخوف التي تتحكم بالجميع، فالكلّ خائف من الكلّ. في السابق أيّ قبل اتفاق الطائف كان يُقال إنّ المسيحي خائف والمسلم مغبون ويجب الإتيان بعهد أو ميثاق وطني يعالج خوف هذا وغبن ذاك، فكان ميثاق الطائف الذي أنتج حالة يمكن وصفها في التطبيق اليوم أنّ الكلّ بات خائفاً، والجميع يشعر بأنه مغبون (ألا فريق واحد) وبات المغبون يتمسّك بما يصفه بالفتات المتبقي له حتى لا يحرم كلياً من «جنة السلطة ونعيم المصالح»، أما الخائف – كلّ خائف – فقد شحذ سيفاً صنعه من تفسير دستوري أو قانوني أو عرفي يناسبه وصاغه على هواه، ومنع الآخرين من اقتحام منطقة نفوذه وصلاحياته المدّعاة، ما أنتج واقعاً توزعت فيه الدولة حصصاً وانتفى عنها وصف الدولة الموحّدة لتقوم مكانها فيدرالية المجالس والوزارات والأجهزة وطائفيتها التي تتناتش الصلاحيات وتمارس التعطيل والتطبيل المتبادل.
وتطبيقاً لهذا الأمر على مسألة تشكيل الحكومة ذاتها نجد، أنّ رئيس الجمهورية وفريقه يخشى من التهميش والإطاحة بما تبقى للرئيس من صلاحية في تشكيل الحكومة لكونه شريكاً دستورياً وليس كاتباً أو موظفاً عند رئيس الحكومة، كما نجد رئيس الحكومة ينكر على هذا الفريق حقه الذي يتيحه له موقعه الدستوري وحجمه السياسي والنيابي وامتناع المسيحيين الآخرين عن المشاركة في الحكومة لأنه يخاف إنْ أعطاه حقه وامتلك حقّ الفيتو في الحكومة (بامتلاك قرار 13+1) أن يمارس الابتزاز والتعطيل وفرض المقايضة بقرارات الحكومة. كلّ ذلك قائم بسبب انعدام الثقة بين الطرفين الشركاء الدستوريين في تشكيل الحكومة.
هذا في الظاهر أما في المخفيّ من المسألة وهو الأخطر والأهمّ منع تشكيل الحكومة فإنه يعود إلى ما يلي:
1 ـ خوف سعد الحريري من تشكيل حكومة تغضب السعودية وعجزه عن تشكيل حكومة تُرضي السعودية. وللتوضيح نقول:
إنّ السعودية تريد في لبنان معاقبة حزب الله وإقصاءه عن أيّ دور سياسي في لبنان بدءاً من دخوله في الحكومة مباشرة أو مداورة، وتريد أن تعاقبه حتى الإلغاء لدور تدّعيه له في اليمن وتربط رضاها بما تصفه بانسحاب حزب الله من المسألة اليمنية وتطلب منه الضغط على أنصار الله لوقف أعمالهم الدفاعية في وجه العدوان الوحشي الذي تقوده هي ضدّ اليمن. وطبيعي ألا يُستجاب لهذا المطلب لأن ليس في مقدور أحد تلبيته فقرار اليمن في اليمن ثم من له أن يحترم نفسه ومبادئه ويقدم على نصرة الظالم على المظلوم.
أما تشكيل حكومة من دون موافقة حزب الله فهو أمر عسير لا بل مستحيل لأنّ حزب الله مع حلفائه هم من يملكون الأكثرية النيابية اللازمة لمنح الحكومة الثقة وتمكينها من الحكم. ولذلك سيبقى الأمر على جموده حتى تتراجع السعودية عن شرطها أو يتشجّع الحريري ويتجاوزه وهما أمران لا يبدو أيّ منهما ممكناً في المدى المنظور اللهم إلا إذا تسارع الضغط الأميركي لوقف حرب اليمن فيكون عندها لكلّ حادث حديث.
2 ـ يخشى الحريري أن تضطر حكومته وفي أيامها الأولى إلى اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة له ولحلفائه تحت الطاولة أو فوقها، من قبيل التدقيق المالي الجنائي، أو مسألة الحدود الجنوبية، أو العلاقة مع سورية، أو قرارات تكون غير شعبوية على أبواب انتخابات مقبلة، أو قرارات مؤلمة للشعب كرفع الدعم، أو بتّ مصير الودائع المصرفية إلخ، ولذلك يفضل أن تتخذ هذه القرارات من قبل حكومة تصريف الأعمال التي لا يطمح أعضاؤها بممارسة السياسة وخوض الانتخابات النيابية. وفي المقابل نجد حسان دياب يمتنع عن اتخاذ هذه القرارات ويؤجّلها للحكومة الجديدة التي يستعجل تشكيلها، ويرفض حتى مناقشة الموازنة وهو أمر يعلم الجميع أنه في قمة الإلحاح دستورياً وعملياً.
3 ـ في مقابل تلك الخشية يطمئن الحريري إلى أنّ هناك فرقاء داخليين لديهم متعة طرح الأفكار العقيمة التي ليس من شأنها اليوم إلا الإشغال وتشتيت الجهود وحرف الناس عن همومهم الرئيسية ما يحجب سلبيات تصرفاته لأنه ينقل الاهتمام بجهد إعلام مرتزق مأجور وأطراف سياسيين محترفين ينقل الاهتمام عند فريق من اللبنانيين إلى تلك المواضيع بعيداً عن الهمّ الرئيسي أمثال طرح مسألة حياد لبنان أو الدعوة إلى مؤتمر دولي للوصاية على لبنان أو طلب تحقيق دولي أو محاكمة دولية إلخ…
4 ـ أما الأخطر والأهمّ فهو سكوت الناس وتشتتهم إلى درجة تفسّر بأنهم راضون ضمناً بما يحصل أو عاجزون عن الحراك ضدّه أو يسيطر عليهم التعصّب الأعمى للزعيم الذي يقودهم إلى جهنّم راضين، يبدون هذا السلوك رغم انهيار النقد وجنون الأسعار وظلمة المستقبل التي يفاقمهما وباء كورونا بشكل يظهر لبنان دولة فاشلة عاجزة عن حلّ قضاياها كبيرها وصغيرها.
وهكذا تحوّل لبنان إلى رهينة بيد بعض مَن في الداخل والخارج، وبات المغرضون في الداخل خاصة يربطون مصيره بملفات أخرى دولية أو إقليمية كالملف النووي الإيراني وحرب اليمن والعدوان على سورية وقانون قيصر و… و… و…، ويتناسون أنّ المشكلة هنا ومن إنتاج اللبنانيين أنفسهم وأنّ الحلّ يمكن فرضه بقرار لبناني لو وُجد الرجال الوطنيون الذين يعملون لوطنهم ولمواطنيهم مع حفظ معقول لمصالحهم بعيداً عن أوامر الخارج ولو للحظة واحدة. فالخارج لا تهمّه مصلحة لبنان، لأن مصلحته هي التي تقوده وليست مصالح الآخرين.