منذ دعوته إلى "الحياد" قبل أشهر، وصولاً إلى طرحه "تدويل" الملف اللبنانيّ قبل أسابيع، في مواجهة "الجمود" المهيمن على أروقته المختلفة، بدأت علاقة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بـ"حزب الله" تتراجع إلى الخلف، وتأخذ منحىً "تصعيديًا" بصورة أو بأخرى.
بدا الأمر جليًا في الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، حين وجّه سهامًا مباشرة إلى الراعي، للمرّة الأولى منذ فترة طويلة، على خلفيّة طرح "الحياد"، الذي وضعه في مصاف "استدعاء الحرب"، ولو تعمّد عدم تسميته بشكلٍ مباشر.
وتعزّز هذا الاستنتاج أكثر على هامش "الحشد" الذي شهدته بكركي السبت الماضي، بمباركة البطريرك الراعي، والذي حمل بين طيّاته رسائل "ناريّة" إلى الحزب، تجاوزت "الحياد"، لتعيد فتح النقاش حول السلاح والشرعيّة، وغيرها من القضايا الخلافيّة التاريخيّة.
ومع أنّ هناك بين المحسوبين على "الحزب" من يتفهّم "هواجس" البطريرك الماروني، الذي يجد نفسه "عاجزًا" في ظلّ أزمة "خانقة"، خصوصًا بعدما اصطدمت "مبادرته" الحكوميّة بالحائط المسدود، إلا أنّ "السلبيّة" طبعت انطباعات جمهوره بعد تحرّك السبت.
فهل تكون هذه "السلبيّة" هي عنوان العلاقة بين بكركي وحارة حريك خلال المرحلة المقبلة، أم أنّ لقيادة "الحزب" رأيًا مخالفًا ستعبّر عنه في القادم من الأيام، بعيدًا عن "اندفاع" الجماهير "الافتراضيّة" التي باتت "تشوّش" أكثر مما تعكس السياسة الفعليّة والحقيقيّة؟.
انطباع أول... سلبي؟
قد لا يكون الانطباع "السلبيّ" على تحرّك بكركي الذي أظهرته الجماهير "الافتراضية" المؤيّدة لـ"حزب الله" خلال اليومين الماضيين بمُستغرَب، فمثل هذا الانطباع لم يكن ابن ساعته، بل تمّ التمهيد له منذ فترة، بمُعزَلٍ عن المواقف التي أطلقها البطريرك الراعي في مهرجان السبت.
ولعلّ الأجواء العامة التي أحاطت بتحرّك السبت أسهمت في تعزيز هذا الانطباع وتغذيته، خصوصًا بعدما روّح كثيرون أنّ هذا التحرّك سيمهّد لولادة "جبهة" جديدة على شاكلة لقاء "قرنة شهوان"، بحيث تكون مناوئة لـ"حزب الله" بالدرجة الأولى، والأهمّ، تعيد طرح الملفات الإشكالية والسجاليّة، وعلى رأسها ملفّ السلاح، الذي لا يزال يثير حساسيّة مفرطة لدى جماهير "الحزب"، التي تصنّفه ضمن "الخطوط الحمراء" التي يحظر تجاوزها أو المسّ بها.
ولأنّ الشعارات التي أطلقها المشاركون في التحرّك، سواء كانوا من المؤمنين بدعوات "الحياد والتدويل" التي يطلقها "سيّد بكركي"، أو من المحازبين، ولا سيما المنتمين إلى حزبي "الكتائب" و"القوات اللبنانية"،والذين أرادوا "استغلال" المهرجان لتصفية بعض "الحسابات السياسية"، افتقدت للكثير من "العفويّة"، توجّست الجماهير من شيءٍ ما "يُحاك" في الأفق وخلف الكواليس، لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فكان الانطباع السلبيّ العام.
ومع أن كلمة البطريرك الراعي التي وُصِفت بـ"التاريخية"، لم تحمل "انقلابًا" في المواقف على ما يردّده في عظاته الدوريّة، إلا أنّ هناك أيضًا من "تعمّد" الإضاءة على نقاط الخلاف والافتراق، للإيحاء بوجود تحوّل "جذري" في الموقف، ما أدّى إلى "استنفار" لا يبدو مبرَّرًا، خصوصًا إذا ما طال "ثوابت" مبدئيّة وتاريخيّة لبكركي، ترسّخها مقاربتها لهيكلية الدولة، وازدواجية السلاح، واستراتيجية الدفاع، وما يمتّ إلى ذلك بصلة.
من يعيد "إحياء" العلاقة؟
لكن، أبعد من الانطباع "الشعبويّ" الأول، إن جاز التعبير، والذي هيمنت عليه السلبيّة، اتّجهت الأنظار إلى موقف "حزب الله" الرسمي من خطاب بكركي المستجِدّ، وما إذا كان الأخير يؤسّس عمليًا لـ"قطيعة" جديدة بين المرجعيّتيْن، قد لا تُحمَد عقباها، في حال تطوّرت، وخرجت عن الحدود والضوابط المرسومة لها على أكثر من مستوى.
وعلى الرغم من أنّ "الحزب" حرص، مرّة أخرى، على "النأي بالنفس" عن السجال المُستجِد، مكرّسًا سياسة كان قد بدأها منذ فترة طويلة، بعدم الدخول في "متاهات" الردود والردود المضادة، ولا سيّما مع المرجعيّات الروحية، فإنّ هناك من يعتقد أنّ مثل هذه السياسة لن "تصمد" طويلاً هذه المرّة، خصوصًا إذا ما استمرّ "الاستغلال" على خطّها، إن جاز التعبير.
هنا، يقول بعض العارفين بأدبيّات "الحزب"، إن الأخير قد لا يكون راضيًا ولا سعيدًا ببعض مواقف البطريرك الماروني، ولا بالجو العام الذي أحدثته في البلاد، وتوّج بالتحرّكات غير العفوية لبعض خصوم "الحزب"، وهو ما دفعه أمينه العام مثلاً لرفع الصوت ضدّ مبدأ "التدويل"، خشية أن يصل النقاش به إلى ما وصل إليه، ولو أنّ تطبيقه يبقى من "سابع المستحيلات" برأيهم.
لكنّ "الحزب" ليس راضيًا ولا سعيدًا، في الوقت نفسه، ببعض مواقف المحسوبين عليه، ممّن لم يتردّدوا في شنّ الحملات التي تضرّ ولا تنفع، على "رأس" الكنيسة المارونيّة، وفق ما يقول العارفون بأدبيّات "الحزب"، الذين يعتقدون أنّ الأخير سيسعى، بخلاف ما يروَّج له، للانطلاق من مواقف الراعي، لإعادة إحياء قنوات الاتصال معه، بعد فترة من الانكفاء التي تسبّبت بها جائحة كورونا في المقام الأول.
ويشدّد هؤلاء على أنّ في مواقف الراعي التي أطلقها السبت، في المقابل، الكثير ممّا يمكن أن يُبنى عليه للتأسيس لحوارٍ بنّاء لا بدّ منه بين "الحزب" وبكركي، بعيدًا عن النقاط الإشكاليّة التي ركّز عليها البعض، عن سوء نيّة بطبيعة الحال، ولا سيما على صعيد تأكيد البطريرك الماروني على التمسّك بالدستور والطائف، ومقتضيات الشراكة قبل كلّ شيء، وكلّها أمورٌ تعكس "أولويات" الحزب في المرحلة الحاليّة.
لا مصلحة في "الصدام"
بسلبيّة مفرطة، قرأ كثيرون من مؤيّدي "حزب الله" حشود بكركي ومواقف الراعي وما انطوت عليه من رفعٍ للسقف إلى أعلى الدرجات المُتاحة، وصولاً لفتح "صراع" قديم-جديد مع الحزب، حول "خطوطه الحمراء" قبل أيّ شيءٍ آخر.
وبسلبيّة مفرطة، عبّر الكثير من هؤلاء عن موقفهم، وصولاً لحدّ "تهميش" التحرّك، تارةً عبر وضعه في مصاف بعض تحرّكات المجتمع المدني "المتواضعة"، وطورًا عبر اعتباره "استنساخًا" للقاءات وجبهات انتهى دورها التاريخيّ.
لكن، بخلاف هذه "السلبيّة"، سيقيس "حزب الله" الأمور مستقبلاً، فأمينه العام الذي حرص على عدم تسمية البطريرك الراعي حينما هاجم مبدأ "التدويل"، تاركًا للتكهّنات والتأويلات موقعها، لا يريد "صدامًا" مع المرجعيّة المارونيّة في هذه المرحلة.
قد يكون لـ"الحزب" حساباته السياسية، خصوصًا في ظلّ علاقته مع "التيار الوطني الحر"، الذي يبدو "مُحرَجًا" في مكانٍ ما، لكنّ الأكيد أنّ ما قبل تحرّك السبت سيكون كما بعده، أقلّه حتى إثبات العكس، وعودة "الزخم" إلى الساحة اللبنانية، الباحثة عن "مبادرات" حقيقيّة، لا المزيد من السجالات والصراعات...