منذ السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019، كان من الممكن الإنطلاق نحو مرحلة جديدة على المستوى السياسي والمالي والإقتصادي، فيما لو كان هناك قوى تتحمل مسؤولياتها الوطنية في هذه المرحلة الحساسة، لكن على ما يبدو ليس هناك من وجود لمثل هذه القوى. فالقوى القائمة إختارت أن تتفرّج على الإنهيار من دون أن تبادر إلى أيّ خطوة إنقاذيّة، بإنتظار أن يأتي "الفرج" من الخارج، على شكل مبادرة فرنسيّة أو تطور في العلاقات الأميركيّة الإيرانيّة أو تساهل من جانب المملكة العربية السعوديّة.
ما كان من الممكن القيام به قبل نحو عام من الآن بات اليوم من سابع المستحيلات، نظراً إلى أنّ الأزمة باتت أعمق وأكثر تعقيداً، وبالتالي أيّ إجراءات إصلاحيّة من المفترض أن تكون أصعب وذات تداعيات أكبر على كافة المواطنين. ومن المؤكّد أنه بعد أشهر ما يمكن القيام به اليوم لن يكون متوفّراً، لا سيما أن سرعة الإنهيار تفوق سرعة أيّ إجراءات إنقاذيّة، فهو بات يشبه "المطحنة" القادرة على "فرم" أيّ شيء يوضع في داخلها.
قد يكون من المفارقة في مكان، أن غالبية القوى السياسية تبشّر المواطنين، منذ أشهر طويلة، بالإنفجار الإجتماعي المقبل أو الفوضى التي ستقضي على كل شيء، لكن في المقابل هي ترفض تقديم التنازلات أو التقدم بأي طرح جديد. فالخطابات والمواقف لا تزال هي نفسها منذ لحظة إنطلاق التحركات الشعبية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإتهامات والإتهامات المتبادلة. وهي لن تتبدل في المرحلة المقبلة بل ستكون أكثر حدة، لا سيما أن البلاد تقترب من إستحقاقات إنتخابية يحتاج فيها الجميع إلى رفع مستوى خطابه السياسي، و"دغدغة" مشاعر أنصاره بالحديث عن الإنتصارات التي حققها على حساب الآخرين.
في المرحلة الراهنة، قد يكون من غير المنطقي الحديث عن خسارة تلك القوى شعبيّتها بشكل كامل، بغض النظر عن تراجعها في العديد من الأماكن، فهي لا تزال قادرة على حشد أنصارها ضمن لعبة التصعيد السياسي والطائفي التي تحترفها منذ سنوات. لكن ما هو أكيد أنها تقامر وتغامر بمصير جميع اللبنانيين دون إستثناء، غير مهتمّة بالمستوى المعيشي الذي وصلوا إليه، ولا بالمستوى الذي وصلت إليه الأزمة الماليّة والإقتصاديّة، التي ستتصاعد بشكل أكبر وأسرع في حال استمرّت الأمور على ما هي عليه، الأمر الذي يدفع إلى السؤال عمّا تريده تلك القوى فعلياً.
في الأشهر الماضية، خسر الكثير من اللبنانيين أحلامهم، سواء كانت في العمل أو تأسيس أسرة أو في التحصيل العلمي، وبات عليهم التأقلم مع أسلوب حياة مختلف عن الذي إعتادوا عليه. إلا أن الكارثة تكمن بأن هذا الاسلوب يتغيّر كل شهر، ولم يعد من الممكن التخلّي عن المزيد من الأمور للتأقلم، لا سيما أن "المطحنة" وصلت إلى تلك الحاجات الأساسيّة التي لا يمكن الإستمرار من دونها، أبرزها الملف الإستشفائي. في حين أنّ أعداد العاطلين عن العمل تزداد بشكل رهيب، على وقع إعلان المزيد من الشركات والمؤسسات افلاسها.
في لحظة ما، قد تكون قريبة أو بعيدة، ستجتمع تلك القوى على طاولة واحدة لإبرام تسوية تحفظ حقوقها، تحت عناوين السيادة والإستقلال والمصلحة الوطنيّة والتضحية. لكن السؤال، الذي من المفترض أن يطرح منذ الآن، هو عن الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون قبل الوصول إلى تلك اللحظة، التي بات من الواضح أنها ستكون على أساس ضغط خارجي تلتزم فيه تلك القوى من دون أن تبدي أيّ معارضة، نظراً إلى عجزها عن القيام بأيّ مبادرة من تلقاء نفسها. وهل سيبقى الإنهيار فقط على المستوى الإقتصادي والإجتماعي، مع بدء الحديث عن الفوضى الأمنية المتوقعة بعد أشهر قليلة؟!.