في ظل عجز السُلطة التنفيذيّة المُستقيلة منذ العاشر من آب الماضي، عن وقف حدّة وسرعة وخُطورة الإنهيار الحاصل في لبنان، إقتصاديًا وماليًا ومعيشيًا وحياتيًا ووبائيًا، بسبب إستقالتها أيضًا من أداء مهمّة "تصريف الأعمال" المُوجبة قانونًا، لا يزال الكباش بين رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ورئيس الحُكومة المُكلّف سعد الحريري مُستمرًا، مع تمسّك كل منهما بموقفه. وبين الحين والآخر، يُحكى عن خرق في الملفّ الحكومي، قبل أن تتبدّد فُسحة الأمل مع مرور الأيّام وتلمّس فشل المُبادرة تلو الأخرى والوساطة تلو الأخرى. والبيان الذي صدر الخميس عن المكتب الإعلامي للحريري بدّد ما تردّد من تفاؤل حذر أخيرًا!.
يُذكر أنّ رئيس الحكومة المُكلّف الذي لا يكاد يحطّ في لبنان، حتى يُغادر مُجدّدًا إلى الخارج تحت شعار البحث عن الدعم الخارجي وتحضيره من اليوم، لا يزال يُواجه مُشكلة غياب "الضوء الأخضر" لحُكومته المُفترضة من جانب المملكة العربيّة السُعوديّة، على الرغم من قوله إنّه "لا ينتظر رضى أي طرف خارجي لتشكيل الحكومة، لا السُعودية ولا غيرها، إنما ينتظر مُوافقة عون على التشكيلة"، علمًا أنّ بعض التحاليل وضعت تهجّم الحريري على "حزب الله" في بيان مكتبه الإعلامي الأخير، في سياق تقديم الأوراق المُسبقة لفتح باب السعودية أمامه.
وإضافة إلى مُشكلة غياب غطاء الحليف الإقليمي المُفترض، والتي يُعاني منها رئيس الحُكومة المُكلّف الذي لم ينجح بعد في الحُصول على موعد مع أيّ من كبار المسؤولين السُعوديّين، يُواجه الحريري مُشكلة محليّة مهمّة تتمثّل في رفض الحليف الداخلي المُفترض، أي حزب "القوات اللبنانيّة" المُشاركة في الحُكومة المُقبلة، لأنّ قرار "القوات" حازم في البقاء في صُفوف المعارضة، إلى حين إجراء إنتخابات نيابيّة عامة وإنبثاق سُلطة جديدة. وبالتالي، لوّ حاز الحريري على "ضوء أخضر" مَفتوح من السُعودية، لكان بإمكانه تقديم تنازلات أكبر في الملف الحكومي، ولوّ قبلت "القوات" التمثّل بشكل غير مُباشر في السُلطة التنفيذيّة، لكانت مُشكلة إستحواذ فريق "الرئيس–التيّار الوطني الحُرّ" على الثلث زائد واحد قد إنتفت تلقائيًا، لأنّ المقاعد المسيحيّة ستوزّع عندها بين أكثر من فريق مسيحي. أكثر من ذلك، أكّد الحريري في بيان مكتبه الإعلامي تمسّكه بخيار الحكومة من 18 وزيرًا، في ردّ ضُمني على الحليف "الإشتراكي" المُفترض الذي كان أبدى ليونة في ما خصّ توسيع الحكومة والتمثيل الدرزي.
وبمُوازاة عتب رئيس الحُكومة المُكلّف غير المُعلن على حلفائه المُفترضين، يُوجد عتب غير مُعلن أيضًا من جانب فريق "الرئيس–التيّار الوطني الحُرّ" على حلفائهما المُفترضين أيضًا، وفي طليعتهما "حزب الله" الذي وبدًلا من التشدّد في دعم موقف رئيس الجمهوريّة، لجهة إفهام الحريري أنّ أي حُكومة لا يرضى عنها رئيس الجمهوريّة، لن تحصل على ثقة الأكثرية في مجلس النوّاب، والتي هي بيد "الحزب" حاليًا، يتخذ ظاهريًا موقفًا أقرب إلى الحياد في الخلاف المُستحكم، الأمر الذي مكّن الحريري من التشبّث أكثر بمواقفه، مع العلم أنّه وكما جاء في بيان المكتب الإعلامي لهذا الأخير، تُوجد نظريّات عدّة تتحدّث عن أنّ العرقلة الفعليّة أمام تشكيل الحُكومة تتأتّى من خلف الكواليس من جانب "حزب الله" الذي ينتظر ما سيحصل في المفاوضات بين واشنطن وطهران، على الرغم من نفي "الحزب" كليًا لهذه التهمة. لكن ليس بسرّ أنّ فكرة العمل على سحب التكليف من الحريري التي جرى بحثها من النواحي القانونيّة والدُستوريّة من قبل فريق "الرئيس–التيّار"، لم تحصل على أيّ آذان صاغية من جانب الحُلفاء المُفترضين، بحجّة أنّ هكذا خُطوة يُمكن أن تُفجّر شحنًا طائفيًا ومذهبيًا، لبنان في غنى عنه في هذه الظرُوف.
إشارة إلى أنّه في معركة عضّ الأصابع بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحُكومة المُكلّف، يُعتبر هذا الأخير الذي يتحصّن بعدم إمكان سحب الترشيح منه، في غير عجلة من أمره للتشكيل، بعكس الرئيس الذي ومع كل يوم يمرّ، يفقد المزيد من الوقت أمام إمكان تحقيق أيّ إنجاز يُذكر خلال ما تبقّى من عهده. ويتردّد أنّ الحريري لا يريد الإسراع بتشكيل حكومة تكون أولى قرارتها التنفيذيّة، مسألة رفع الدعم عن مُختلف السلع التي يدعمها مصرف لبنان حاليًا! وهو يُفضّل أن تنفجر هذه القُنبلة الحارقة–إذا جاز التعبير، بوجه رئيس الحكومة المُستقيل حسّان دياب الذي يرفض بدوره أن يكون كبش فداء هذا القرار غير الشعبي، وهو يُصرّ بشكل دائم على أن يُواصل المصرف المركزي سياسة الدعم المُعتمدة منذ عُقود، حتى لوّ إضطرّ لإستخدام ما تبقّى من أموال المُودعين!.
وبعد فشل طرح زيادة عدد أعضاء الحُكومة من 18 إلى 20 وزيرًا، على أن ينال كلّ من النائب طلال أرسلان والنائب السابق سليمان فرنجيّة الوزيرين الإضافيّين، بما لا يُكسب فريق "الرئيس–التيّار" الثلث زائد واحد ما لم يُصوّت كلّ من ممثّليّ حزبيّ "الطاشناق" و"الديمقراطي" إلى جانبه، حاول مدير عام الأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم فتح ثغرة في الملف الحكومي عن طريق تأمين تنازلات مُتبادلة تقضي بأنّ يوافق رئيس الجمهوريّة على حكومة من 18 وزيرًا، وعلى حصّة من 5 وزراء فقط، من دون إحتساب حصّة وزير "الطاشناق" طبعًا، في مُقابل أن يُوافق رئيس الحكومة المُكلّف على أن يُسمّي الرئيس إسم وزير الداخليّة وأغلبيّة الوزراء المسيحيّين. لكن هذا الطرح لم يُترجم ضُمن مبادرة رسميّة، ليُبنى على الشيء مُقتضاه، الأمر الذي زاد من حدّة السجالات الإعلاميّة.
وفي الخُلاصة، عمليّة شدّ الحبال مُستمرّة في الملفّ الحُكومي، ومُحاولات كسر حال الدوران في الحلقة المُفرغة لم تُثمر بعد، ما يزيد من سواد الصُورة الحاليّة في لبنان، ويُضعف الآمال بإمكان وقف الإنهيار المريع في المُستقبل القريب.