أخذ حصته من ارث أبيه أو بالأحرى الأب الحنون أعطاه من كرمه دون أن ينبث بأية بكلمة ما ظن الابن أنه حصته وترك له الحرية بالتصرف والقرار. اخذ الابن الاصغر حصته من مال ابيه وحزم حقائبه وترك البيت الوالدي دون أن يودعه بكلمة تعزي قلب الوالدي الحنون.
الوليمة الطوطمية
ومضى الابن الصغير الى بلد بعيد عن البيت الوالدي. مزّق رابط الحنان والبنوة التي تربطه بالأب الحنون. ثار على سلطة الوالد وتركه آخذا ماله ومضى، وسلطة الاب الذي يتكلّم عنها فرويد في الوليمة الطوطميّة(1) حيث الابناء يقتلون الأب وينهشون لحمه ليأخذوا قوته وسلطته.
الثورة على الأب
هذا الابن يمثل ثورة كلّ الشباب في عمر معيّن على سلطة الوالد، ويريدون أن يقطعوا رباطهم بأبيهم ليتحرروا من سلطته ويأخذوا استقلاليتهم ويمتلكوا قرارهم وكرامة شخصيتهم، هذا هو نزاع الاجيال وأزمة عمر النضوج في حياة الشباب الذي يشرحه فرويد في كتابه Toteme etTabow بعمليّة قتل الأب وأكله في وليمة طوطميّة ليأخذوا قوته وسلطته وسيطرته.
الابن يرعى الخنازير
امتلك الابن الصغير لذّة الحريّة والاستقلاليّة ولذّة المال وذهب بعيدا ليعيش لذة الجسد صارفا كل ماله على لذّة الجسد مع الزواني حتى افتقر وجاع، فراح هناك يرعى الخنازير ليعيش. وفقد سلطته وكرامته واستقلاليته وحريّته وكان يأكل البلوط الذي تأكله الخنازير. واستيقط فيه حب والده واخذه الندم عما فعل وقال في نفسه: "يا ابي قد خطئت الى السماء وأمامك"،انا هنا في هذا الذل والعار اعيش مع الحيوانات وأتضور جوعاً بعد أن كنت في بيت أبي أعيش مكرّماً عالي الجبين، ويخدمني الخدم وهنا أنا أرعى الخنازير. وأخذه الشعور بالتوبة ورغبة بالرجوع الى البيت الوالدي وقال في نفسه "أقوم وأمضي الى أبي وأقول له يا أبي قد خطئت أمام السماء وأمامك فاجعلني كأحد اجراءك" وقام وعاد... المهمّ أنه ترك وضعه المذلّ وقفل راجعاً الى حضن أبيه.
إسراع الاب لملاقاة الابن
الاب الحزين المجروح كان يقف على الباب ينتظر عودة الابن الصغير، وهو يكرر فعل الانتظار والنظر الى الأفق البعيد وقد أخذ نظره يشح بسبب الحزن والكآبة، علّه يرى طيف نجلهعائدًاالى البيت الوالدي والى حضنهالحنون.
وفجأة فعل فعله شوق الانتظار من دون كللٍ أو مللٍ عندما لاح طيف ولده مقبلا الى البيت، فأسرع الى ملاقاته يقبله ويضمه الى صدره.
لوحة Rembrandt
هذا اللقاء الأبويّ يجسده Rembrandt(2) في لوحة فنّية رائعة حيث يضم الاب الابن الى احشائه كأنه يلده من جديد ورأس الابن غارق في احشاء الوالد. ويدا الاب على كتفي نجله وظهره، واحدة منها بحجم طبيعي واخرى كبيرة كأنّها يد الله والنور يشعمن وجه الاب ليملأ اللوحة فرحا وسكينة.
الحلة الجديدة والخاتم
ضمّ الاب الحنون الابن الضال الى صدره وعاد به، وادخله البيت، وأمر الخدم ان يلبسوه حلّة جديدة ويضعوا بيده خاتما علامة العودة الى حقّ البنوّة والوراثة، والبسوه حذاءًجديداً، وأمرهم ان يذبحوا له العجل المسمّن وأن يفرحوا ويغنّوا ويرقصوا.
اب وابناه وغياب الام
وعاد الابن الاكبر الى البيت فسمع الغناء فسأل عن سببه فقالوا له: "لقد عاد أخوك وذبح له أبوك العجل المسمن". فغضب وذهب الى الوالد يعاتبه ويقول له: "كم لي من السنين أخدمك ولم تذبح لي عجلا واحداً، ولما عاد ابنك هذا الذي صرف مالك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن"؟! فقال له الوالد بحنان فائق: "يا ابني انت معي في كلّ حين وما هو لي هو لك. اما اخوك هذا فكان ميتاً فعاش وضالاً فوجد". والملاحظ هنا أن الأب الحنون يأخذ دور الوالد ودور الأم، وهذا الأب يمثل الله في محبته الأبويّة ويمثل الأم في حنانها وأموميتها. اما الابن الاكبر فلم يفرح بعودة اخيه وكأنه يغار منه ولم يرد أن يدخل.
تعالوا نتوب ونعود الى الآب السماوي في هذا الوقت وقد اصبحنا في منتصف الصوم، نعود بالاعتراف والتوبة والندامة وطلب المغفرة والمسامحة ولا نبذر نعمة الله بالشر والخطايا.
1-الطوطميّة مشتقّة من كلمة طوطم (Totem) وهو أي كيان يمثل دور الرمز للقبيلة، وأحيانا يُقدس باعتباره المؤسس أو الحامي. أول من أدخل اصطلاح الطوطم إلى اللغة الإنكليزية هو الرحّالة ج. لونك عام 1791 إذ استعمله في كتابه "رحلات مترجم هندي وأسفاره"، واستعمل كلمة الطوطمية في الدراسات الأنثروبولوجية لأول مرة العالم الإسكتلندي ج. مكلينين في عام 1870 عند كتابته مقالا بعنوان "الطوطمية". وهي كانت موجودة لدى عرب الجاهليّة، إذ كان لكل قبيلة صنم خاص بها على صورة حيوان أو جزء من الإنسان. وهو يقوم عادة على شيء مادي مرسوم أو مجسّم وربما حيوان أو نبات تعتقد جماعة ما أنه يحتوي على صفات روحانيّة خارقة ضمن مقدّساتها وميراثها. وقد ألف سيغموند فرويد المؤسس لمنهج الديناميكية النفسية لعلم النفس كتابا تحت عنوان الطوطم والمحرم (Totem andTaboo)شرح فيه أصل العبادة الطوطميّة المنحدر من ذكرى حدث في عصور ما قبل التاريخ، عندما أكل مجموعة من الرجال شخصية أو صورة الأب بسبب رغبتهم بالنساء.
2-رامبراندت هرمنسزون فان راين (Rembrandt Harmenszoon van Rijn) رسّام هولندي ولد في لايدن عام 1606 وتوفي في 4 تشرين الأوّل عام 1669، استقر في مدينة أمستردام منذ سنة 1631. وقد رسم لوحة "عودة الابن الضال" سنة 1668 وهي واحدة من بين الأعمال الأخيرة للرسام الهولندي الشهير، حيث يُعتقد أنها اكتملت قبل وفاته بوقت قصير، وتصور عودة الابن الضال حضن والده ويندم على خطاياه، وتعد هذه اللوحة واحدة من أبرز مقتنيات متحف Western European Art.