ليست هي الزيارة البابوية الأولى للشرق، لكن توقيت ومضمون لقاءات البابا فرنسيس في العراق يحملون دلالات واضحة لتثبيت المسيحيين في أرضهم، بعدما تهجّروا الى الدول الغربية وشملت جميع طوائفهم، فتراجع عددهم في العراق من ستة ملايين إلى حوالي نصف مليون. إنه نزيف مجتمعي ليس بحق المسيحية فحسب بل بحق الإنسان في المشرق: ما قيمة الأوطان العربية في حال خلت من المسيحيين؟ يغيب رونقها، يتراجع وهجها، تُسحق ميزاتها. وهو أمر دفع الإمام موسى الصدر منذ حوالي نصف قرن في لبنان، إلى الدعوة للتمسك بمسيحيي الشرق، فسعى بكل قدراته لتثبيتهم في أرضهم، وكان أول رجل دين مسلم يخطو بإتجاه الكنيسة للتحدث فيها خلال فترة الصوم، وإلقاء خطبة الكبّوشية. بعدها حلّت حروب في لبنان والإقليم أجبرت المسيحيين على هجرة بلدانهم نحو دول غربية قدّمت لهم الإغراءات وأنشأت لهم كنائس ليست على قياس مشرقيتهم. من يومها حلّت نكبات سوريا والعراق وسيناء مصر، بعدما حاول فيها التطرف، ولا يزال، غزو المجتمعات بأكملها. تشهد على تلك المآسي كاتدرائية سيدة النجاة في بغداد التي إختار البابا فرنسيس ان يلتقي في أحضانها الكهنة ورجال الدين المسيحيين، كرسالة واضحة تدل على مواجهة التطرف وعدم الهزيمة أمام موجاته ومخاطره. تلك الكاتدرائية نفسها هي التي اجتاحها الإرهابيون عام 2010 وإحتجزوا رهائن فيها وقتلوا 53 شهيداً، أراد البابا أن يتبارك بدمائهم، كما قال.
لذا، تأتي رسالة الزيارة البابوية للكاتدرائية بعيدة المدى، ترتبط بنهج مسيحي قائم على التضحية والفداء والبقاء. وبالتالي هي تحقق الأمل والرجاء معاً. ومن هنا يكتسب حضور البابا فرنسيس أهمية ستتوسع في كل مساحة يزورها خلال وجوده في العراق. لكن الأهمية القصوى تتحقق بلقاء قمة جمعه بالمرجعية الشيعية الأعلى في العالم آية الله العُظمى السيد علي السيستاني، الذي يحتل مكانة مرموقة ليس عند العراقيين فحسب، ولا عند الشيعة في كل أنحاء العالم فقط، بل هو مرجعية جامعة يستند إليها الشيعة، ويحترمها السنّة، ويودّها المسيحيون بكل أطيافهم، خصوصاً انّ مواقفه تدعو لحماية المسيحيين بكل القدرات والإمكانات. هو ترجم ذلك من خلال موقعه القيادي الديني والفتاوى التي تصبّ في سياق رص الصفوف للدفاع عن كل مكونات العراق ضد الإرهاب.
لذلك، فإن زيارة البابا فرنسيس الى منزل المرجع السيستاني في النجف انتظرها المسلمون والمسيحيون بلهفة دلّت عليها اللافتات في شوارع مدن العراق. خطا البابا عشرات الأمتار مشياً على الأقدام، للوصول الى منزل متواضع جداً، يُشبه منازل الفقراء الزاهدين، وجلس البابا والمرجع في غرفة عادية تُعبّر عن سلوك الرجلين. هناك شبه بالتفكير بينهما، نظراً للإنسانية التي يتمتعان بها، وهي ظاهرة في تصرف الإثنين. وهنا ستكون القمة المسيحية- الإسلامية.
يُكمل البابا عملياً ما حققه في توقيع الوثيقة التاريخية مع شيخ الأزهر في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2019، ليؤكد رأس الكنيسة الكاثوليكية أنه يُترجم نُبل المسيحية. فهل تستفيد دول المنطقة من هذا السلوك الإنساني الراقي الجامع؟ بالتأكيد ستترك الزيارة البابوية، وتحديداً قمة النجف رسائل سيفهمها الغرب ويقتدي بها الشرق ويشاكسها المتطرفون في كل مكان.