بعد تجاوز سعر صرف الدولار عتبة العشرة آلاف ليرة لبنانيّة، عادت التحرّكات الشعبيّة إلى الشوارع، وعادت عمليّات قطع الطُرقات، إحتجاجًا على كل الأوضاع السائدة. فهل تكون النتيجة مزيدًا من التدهور ومزيدًا من الإنهيار، أم أنّه يُمكن المُراهنة على تغيير ما هذه المرّة؟.
بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ تركيبة لبنان الطائفيّة والمَذهبيّة مَعطوفة على تباينات عقائديّة وعلى خلافات سياسيّة عميقة ومُتجذّرة، تحول دون تلاقي الناس على مبدأ الثورة الكاملة على السُلطة الحاكمة، أيّا كانت هذه السُلطة، أمس واليوم وغدًا. والأسباب عينها تُشكّل عقبة كُبرى أمام إستجابة الجيش اللبناني للدعوات الشعبيّة التي تُطالبه بالقيام بإنقلاب عسكري وبإستلام السُلطة بالقُوّة-كما يحصل عادة في كثير من دول العالم التي تشهد إنهيارات خطيرة على مُستوى الأمن الحَياتي والمَعيشي. وبالتالي، إنّ سقف الإحتجاجات الشعبيّة في لبنان، يبقى مَحدودًا مهما توسّعت هذه الإحتجاجات وإشتدّت، حيث لا مجال لتغيير الواقع القائم من جذوره! حتى أنّ مطلب إجراء إنتخابات نيابيّة مُبكرة غير مُمكن التنفيذ، لأنّ باب هذا البند يمرّ بالمجلس النيابي الحالي الذي عليه تقصير ولايته، وهذا غير وارد، علمًا أنّ لا رأيًا مُوحّدًا بين الجمَاعات المُنتفضة في الشوارع بالنسبة إلى هذا البند، بل إنقسامات عميقة بشأن طبيعة القانون الإنتخابي الواجب إعتماده في أيّ إنتخابات مُقبلة، بموازاة إنقسامات مُماثلة للقوى السياسيّة في ما خصّ القانون المُفترض، وموعد إجراء هذه الإنتخابات أيضًا.
وبالتالي، إنّالإحتجاجات التي عادت إلى الشوارع، بعد أشهر طويلة من الغياب، بسبب تداعيات إنتشار وباء "كوفيد 19" من جهة، وبسبب يأس الكثير من الناس من إمكان تحقيق أيّ هدف من جهة أخرى، مَحدودة الأهداف جدًا، حيث أنّ مطلبها العملاني–ولوّ غير المُعلن، يقضيبتشكيل حكومة جديدة، مع منحها فترة سماح قصيرة للبدء بمُعالجة الأوضاع، أو أقلّه لوقف حدّة الإنهيار وسرعته! وكلّ ما يتردّد على لسان بعض المُحتجّين هنا أو هناك من مَطالب مُتفرّقة، والتي لا تحظى بإجماع المُنتفضين أنفسهم أصلاً، يفضح غياب التوافق بين الجمَاعات التي تتحرّك في الشارع. فما الذي يجمع مثلاً بين مُحتجّ بخلفيّة حزبيّة يمينيّة مسيحيّة يُطالب بحصر ملكيّة السلاح بيد الجيش اللبناني حصرًا، ومُحتجّ مؤيّد لمحور "المُقاومة والمُمانعة" يرفض أيّ مسّ بسلاح "حزب الله"، حتى لو بلغت العُقوبات على لبنان ذروتها وبلغ الإنهيار أعلى مُستوى؟! وما الذي يَجمع بين مُحتجّ بخلفيّة شيُوعيّة يساريّة، ناقم على كل ما له علاقة بالرأسماليّة من مصارف وملكيّة خاصة وإقتصاد حرّ، إلخ. ومُحتجّ بخلفيّة إسلاميّة مُتشدّدة يُطالب بالإفراج عن بعضالمَحكومين أو بترخيص كشك غير شرعي ليقتات وعائلته؟! وما الذي يجمع بين مُحتجّ بخلفيّة سياسيّة-دينيّة عقائديّة يُطالب بالعفو عن المُحكومين وعن المَطلوبين بجرائم الإتجار بالمُخدّراتوحمل الأسلحة غير المُرخّصة والتصدّي للقوى الأمنيّة، ومُحتجّ آخر بخلفيّة سياسيّة مُناقضة يُطالب بإسقاط رئيس الجمهوريّة وبإسقاط النظام؟!.
وحتى لو وضعنا جانبًا الأيدي الخفيّة لكثير من الأحزاب والقوى السياسيّة التي تعمل على تحفيز الإحتجاجات الشعبيّة هنا أو هناك، لغايات سياسيّة مُحدّدة ولتصفية حسابات حزبيّة مُختلفة، إنّ مطالب العيش الكريم، والحُصول على فرصة عمل، ووقف الإنهيار الإقتصادي والمالي، وإستعادة الأموال المَنهوبة والودائع المَسلوبة من المصارف، وغيرها من المَطالب المُحقّة التي يُمكن أن تجمع شرائح واسعة من الشعب اللبناني، سُرعان ما تصطدم بواقع الإستثناءات التيسُرعان ما تُطلّ برأسها عند المُطالبة بإسقاط كل القوى وبمحاكمة كل رموزها. وليس بسرّ أنّ هذه الإنقسامات وغياب الرؤى المُوحّدة بين المُحتجّين، هي التي حالت دون تشكيل قيادة مُوحّدة تضمّ مفاتيح مُحرّكي الإحتجاجات الشعبيّة على الأرض، ناهيك عن سعي الكثير من هؤلاء لتزعّم التحرّكات، لأهداف ولغايات سياسيّة مُستقبليّة، منها مثلاً الترشّح لمناصب قياديّة في السُلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، عندما تسنح الفرصة لذلك في المُستقبل. حتى الفئة الناقمة على السُلطة السياسيّة كلّها، إن الموجودة في الحكم أم تلك التي هي خارجه حاليًا، غير مُوحّدة على مطلب قطع الطُرقات، حيث هناك من يَعتبر أنّ هذا الإجراء غير مُجدٍ ويُؤثّر سلبًا على داعمي الإحتجاجات، ويَمنعهم من تحصيل قوتهم اليومي، من دون أن يُضرّ بالطبقة الحاكمة، بينما تعتبر فئة أخرى من المُحتجّين بأنّ قطع الطُرقات هو الإجراء الوحيد المُوجع الذي يُمكن أن يُشكّل سلاح ضغط بوجه السُلطة.
في كل الأحوال، إنّ "الثورة" المُجتزأة، أي التي يُشارك فيها بعض الناس هنا، في الوقت الذي يتمتّع فيه آخرون بيوم ترفيهي على البحر أو الثلج هناك، لا يُمكن أن تنجح! و"الثورة" المُجتزأة التي يتمّ خلالها قطع بعض الطرقات على بعض الناس ولبعض الوقت هنا، بينما لا يتأثّر الكثيرون من هذه الإحتجاجات في كثير من المناطق الأخرى وفي كثير من الأوقات هناك، لا يُمكن أن تنجح أيضًا! و"الثورة" المُجتزأة التي تسير من دون قيادة مُوحّدة ومن دون أهداف مُوحّدة، لا يُمكن أن تنجح! ولكل ما سبق، لم يعد غريبًا مُشاهدة أغلبيّة ساحقة من اللبنانيّين الذين–وعلى الرغم من نقمتهم على كل الطبقة السياسيّة ومن رغبتهم الحادة بتغييرها، يقفون على الحياد، بدلاً من المُشاركة في الإحتجاجات التي في شكلها الحالي لن تزيد الأمور سوى تدهورًا! والمَطلوب إمّا البقاء في كلّ الشوارع ليل نهار، لتحقيق لائحة منالمَطالبالواضحة والجامعة، الواحد تلو الآخر، على غرار تشكيل حكومة جديدة فورًا، أو إجراء إنتخابات تُعيد تشكيل السُلطة برمّتها، أو إقرار قانون يحفظ حُقوق المُودعين في المصَارف، على سبيل المثال لا الحصر، وإمّا الإنسحاب من الشوارع!.