منذ الأيام الأولى لتفجّر الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية في الشارع في 17 تشرين الأول من عام 2019، بالتزامن مع تسعير الحرب الأميركية المالية والاقتصادية ضدّ لبنان، نبّه أمين عام حزب الله سماحة السيد حسن نصرالله، اللبنانيون، في كلّ محطات الازمة، المستمرة في التفاقم، نبّههم إلى أنّ هناك خطة أميركية للضغط عليهم بواسطة لقمة عيشهم بهدف تركيعهم وفرض الاستسلام عليهم للشروط والإملاءات الأميركية، لا سيما منها، النيل من مقاومتهم، والاقتراض بشروط صندوق النقد الدولي، مؤكداً أننا لن نجوع ولن نركع... داعياً إلى المقاومة الاقتصادية عبر إعلان الجهاد الزراعي والصناعي في كلّ بقعة من لبنان لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مواجهة الحصار الأميركي الجائر الهادف إلى تجويع لبنان وتركيعه وإذلاله"، مشيراً إلى أنهما "الطريق الأقصر للكرامة وخروج لبنان من أزماته".. كاشفاً عن عروض إيرانية وصينية للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية...
لكن اقتراحات سماحة السيد العملية، الممكنة التحقق، للخروج من الأزمة والتي لا تحتاج سوى إلى قرار سياسي جريء، لم تر استجابة عملية للتنفيذ، وواجهت اعتراضات وعقبات وعرقلات عطلت فرص الاستفادة منها لوقف الانهيار الاقتصادي والمالي، والتدهور الخطير في القدرة الشرائية للمواطنين.. ويتحمّل المسؤولية عن ذلك جميع الأفرقاء في السلطة والمعارضة والشارع على السواء، وتجسّد ذلك في ما يلي:
أولاً، تردّد حكومة الرئيس حسان دياب في الإقدام على المسارعة لتلقف هذه الفرصة الثمينة والمتاحة، والتي تتطلب اتخاذ قرار التوجه شرقاً وقبول عروض المشاريع غير المشروطة للخروج من الأزمة، وكسر الحصار الأميركي المفروض على لبنان.. وأضاعت الحكومة فرصة امتلاك ورقة قوية لفرض علاقات اقتصادية متوازنة بين لبنان ودول الغرب والشرق على حدّ سواء، فرصة لو استغلت كانت ستضع حداً لاستنزاف احتياط الدولة من الدولار، ووقف الانهيار في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، من خلال مقايضة الإنتاج اللبناني بالمشتقات النفطية العراقية، أو دفع ثمنها بالعملة اللبنانية حسب العرض الإيراني، وإقامة مشاريع معامل الكهرباء ومعالجة النفايات وإقامة سكك الحديد إلخ... بواسطة نظام BOT حسب العروض الصينية.
والسبب في هذا التردّد عدم موافقة أفرقاء من الأغلبية النيابية، التي تتكوّن منها الحكومة، على دعم اقتراح التوجه شرقاً وقبول عروض المشاريع والمساعدات... رغم إعلان رئيس الحكومة حسان دياب، بعد اجتماع مع السفير الصيني في بيروت بحضور بعض الوزراء، عن استعداد لبنان تلقف الرسائل الصينية وتحويلها إلى التنفيذ. رسائل أكدت فيها عشر شركات صينية ضخمة استعدادها للاستثمار في مشاريع بنى تحتية في لبنان رغم الأزمة المالية التي يمرّ فيها...
ثانياً، معارضة قوى 14 آذار القوية للتوجه شرقاً وقبول العروض المذكورة، وشنّ هجوم على مثل هذا التوجه عبر الزعم بأنه ينزع لبنان من علاقته مع الغرب.. وهو طبعاً كلام لا صحة له، لأنّ لبنان يقع جغرافياً في الشرق، وموقعه على ساحل المتوسط مكنه من لعب دور الوسيط بين الغرب والشرق، وبالعكس.. وهذه الميزة هي التي تجعل الصين مستعدة ومتحمّسة لتقديم عروض إقامة المشاريع في لبنان باعتباره يقع على طريق الحرير.. لكن قوى 14 آذار تريد أن يبقى لبنان تابعاً للغرب وخاضعاً له اقتصادياً وسياسياً، وتنفذ توجهاته لمنع توجه لبنان شرقاً، لأنّ ذلك سيحرّر لبنان من الضغوط الأميركية الغربية ويفقد العواصم الغربية قدرة التأثير عليه...
ثالثاً، امتناع القوى والمجموعات المشاركة في الحراك في الشارع عن دعم التوجه شرقاً وممارسة الضغط على الحكومة لقبول المشاريع والمساعدات غير المشروطة المعروضة على لبنان.. وبدلاً من ذلك، تصرّف قسم منها بسلبية، وقسم آخر وقف معارضاً يرفض مثل هذا الخيار، لا بل واصل التصويب على الحكومة والعهد في سياق خطة لمنع الحلول، والعمل لتغيير المعادلة السياسية، عبر الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، رهاناً بأن تؤدي إلى إحداث انقلاب في موازين القوى لمصلحة الفريق الموالي للولايات المتحدة والدول الغربية.. على غرار ما حصل عام 2005، اثر جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتحميل مسؤولية اغتياله لسورية والمقاومة والقوى الوطنية...
هكذا فإنّ جميع هذه الأطراف، المذكورة آنفاً، تتحمّل مسؤولية عرقلة فرص الحلّ التي توافرت عبر عروض المشاريع الصينية والإيرانية والعراقية، واستطراداً تتحمّل مسؤولية دفع حكومة دياب إلى الاستقالة وإعادة تسمية الرئيس الحريري لتشكيل الحكومة وتعويمه، بعد أن كان، مع قوى 14 آذار، في حالة من القلق والخوف على خسارة نفوذهم في مواقع السلطة، بعد التعيينات المالية، التي أقرّتها حكومة دياب، واتجاهها إلى البدء بخطة مالية لمعالجة الأزمة ركيزتها التدقيق المالي لتحديد المسؤوليات عن الأزمة وكيفية توزيع الخسائر، وبالتالي إعادة تمكين الحريري من جعل البلاد رهينة بيده، ومن خلاله لواشنطن، التي تريد فرض تشكيل حكومة على مقاس شروطها، تتولى تنفيذ سياساتها، ويختار جميع وزرائها الرئيس الحريري منفرداً.. وفي هذا السياق تقوم الطبقة المالية المتحمكة بالقرار المالي وبسعر صرف الدولار، برفع سعره، يساعدها في ذلك حالكم مصرف لبنان رياض سلامة عبر إقدامه على إلزام المصارف بزيادة رسملتها من الدولار، من دون ان يجبرها على تأمين ذلك بواسطة جلب الدولارات التي هرّبتها إلى الخارج، والذي ترافق أيضاً مع توقف مصرف لبنان عن إعطاء التجار الدولار لاستيراد المواد والسلع المدعومة من الخارج، مما أدّى إلى زيادة الطلب على الدولار في السوق المحلية بشكل كبير وتراجع في قيمة العملة الوطنية، وبالتالي التهاب أسعار المواد الاستهلاكية والتسبب بانخفاض لا سابق له القدرة الشرائية للمواطنين.. ومن ثم استغلال ذلك، مادة من قبل المجموعات المنظمة للعودة لتبرير حرق الإطارات وقطع الطرقات وشلّ الحركة في البلاد وتسعير نار الأزمة، وإدخال لبنان في الفوضى الهدامة الأميركية الصنع، لأجل وضع لبنان بين خياري، التجويع والفوضى المستمرة والاهتراء، أو الاستسلام لشروط واشنطن بتسليم السلطة للقوى التابعة لها لتنفذ شروطها، مقابل الإفراج عن المساعدات الدولية ومنح لبنان القروض بشروط مذلة تكرّس خضوعه وارتهانه للمستعمر الأميركي، الذي يسعى بالطبع إلى التخلص من المقاومة وسلاحها، بغية إعادة لبنان إلى زمن السيطرة والهيمنة الاستعمارية والاستباحة الصهيونية لسيادته وثرواته.. وهو الزمن الذي انهته المقاومة الشعبية والمسلحة وجعلته من الماضي، بعد أن صنعت الانتصارات على العدو الصهيوني وفرضت معادلات الردع في مواجهته، مما كبّل قوته الغاشمة، وجعلها عاجزة عن شن اعتداءاتها ضدّ لبنان وسرقة ثرواته.
خلاصة القول، لا حلّ للأزمة، ولا أفق لوقف استمرار الانهيار في سعر العملة الوطنية مقابل الدولار، بعد أن فقدت الأغلبية النيابية القدرة على التحكم بتشكيل الحكومة، اثر تفريطها بحكومة دياب، وتضييع فرصة الإنقاذ، وإقدامها على تسمية الرئيس الحريري لتأليف حكومة جديدة، من دون اتفاق مسبق على تشكيلها ملزم له.. مما أدّى الى جعل البلاد مرتهنة لقراره، الخاضع للضغط الأميركي قبل السعودي...