في موازاة المراوحة على خط الجهود لتشكيل الحكومة بسبب وجود الرئيس المكلف سعد الحريري خارج البلاد... نفذت مجموعات منظمة تابعة لقوى 14 آذار والأنجيؤز خطتها بقطع الطرقات الرئيسية في البلاد ومنع حركة التنقل مما شلّ الحركة الاقتصادية وعطل مصالح المواطنين، وهي خطة سبقها التلاعب بسعر صرف الدولار، ومفاقمة الأزمة المعيشية للمواطنين، لأجل استغلالها في محاولة لتحريك الاحتجاجات الشعبية مجدّداً في الشارع بغية الضغط على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وحزب الله ودفعهما إلى التسليم للرئيس الحريري بتشكيل الحكومة وفق الأجندة التي وضعتها واشنطن، منذ اتخاذها قرار تفجير صيغة التسوية التي كانت قائمة على التعايش بين الفريق الوطني المقاوم، والفريق الموالي للولايات المتحدة... وهو القرار الذي ترجمه الرئيس الحريري بإعلان استقالة حكومته التوافقية في لحظة كانت قد فرغت من إقرار الورقة الاقتصادية لمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية، التي انفجرت في الشارع في 17 تشرين الأول عام 2019.
وكان الهدف من تفجير صيغة التعايش بين الفريقين في الحكومة التوافقية، السعي لاستغلال الاحتجاجات الشعبية الواسعة في البلاد لفرض تأليف حكومة اللون الأميركي... كما كان من الواضح أنّ مثل هذه الحكومة لا يمكن أن ترى النور بالطرق الدستورية لأنها تتناقض مع التوازنات النيابية التي أنتجتها الانتخابات النيابية، ولهذا جرى الرهان على الاستقواء بالشارع لفرض مثل هذه الحكومة الانقلابية، من خلال ركوب موجة الاحتجاجات الشعبية العفوية التي اندلعت تحت ضغط الأزمة... وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم الأجندة الأميركية لإقصاء حزب الله وحلفائه عن السلطة التنفيذية.. تمهيداً لتنفيذ إملاءات واشنطن...
لكن محاولة فرض حكومة من هذا النوع اصطدمت برفض قاطع من قبل الفريق الوطني الذي يمثل الغالبية النيابية، ومن قبل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي تمسّك باحترام القواعد الدستورية لتشكيل الحكومة.. ونتيجة لذلك دخلت القوى الانقلابية، التي اختبأت تحت غطاء الاحتجاجات الشعبية، في مأزق عجزها، الى ان انكشفت أهدافها واستغلالها لمعاناة الناس، بإعلانها عن أهدافها الحقيقية من خلال الشعارات التي راحت تطرحها في الشارع، وتدعو إلى تنفيذ القرار 1559 "الإسرائيلي" الصنع، لنزع سلاح المقاومة، وتحميل حزب الله وحلفائه المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية والمالية وتداعياتها الاجتماعية، والمطالبة باستقالة الرئيس عون لكونه حليف حزب الله ويوفر الغطاء للمقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني وأطماعه.. وقد أدّى ذلك إلى نتيجتين:
النتيجة الأولى، امتناع بعض القوى الوطنية، التي كانت تشارك في التظاهرات والاعتصامات والتجمعات، عن التجاوب مع دعوات التظاهرات...
النتيجة الثانية، توقف الجمهور غير المحزّب، عن الحضور في الساحات، بعد أن اكتشف أنّ هناك استغلالاً لمشاركته ومعاناته لتحقيق أجندات معادية للمقاومة، وبعيدة كلّ البعد عن مطالبه الاجتماعية والإصلاحية التي انتفض من أجل تحقيقها.
ولهذا انحسرت الاحتجاجات، وباتت متقطعة وتقتصر على مشاركة العشرات لانعدام أيّ تلبية من المواطنين الذين أصيبوا بالإحباط وفقدوا الأمل بمثل هذه التحركات لغياب القيادة والأهداف التي تحقق مصالحهم... وكان أن تعرّضت القوى وجماعات الأنجيؤز إلى التوبيخ والتعنيف، من قبل مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر، خلال اجتماع عقد في بيروت العام الفائت، على خلفية فشلها في تنفيذ المهمة التي أوكلت اليها.. ويبدو أنه، اثر ذلك، جرت مراجعة لخطط التحرك ودراسة أساليب جديدة لإعادة تحريك الشارع... وقد تمّت الاستفادة إيما استفادة من إعادة تكليف الرئيس الحريري لتشكيل الحكومة، للعودة إلى محاولة إحياء الاحتجاجات الشعبية، عبر استخدام وسيلتين:
الوسيلة الأولى، تجميد تشكيل الحكومة، والعمل على محاولة رمي الكرة في ملعب الرئيس عون وحزب الله، عبر اتهامهما بعرقلة مهمة الرئيس الحريري تأليف حكومة اختصاصيّين مستقلين.. من خلال اتهام رئيس الجمهورية بأنه يريد الثلث المعطل.. وذلك بغية تعبئة الرأي العام ضدّ الرئيس عون.
الوسيلة الثانية، العودة إلى التلاعب بسعر الدولار... والتسبّب بزيادة حدّة الأزمة المعيشية، لأجل دفع الناس للنزول إلى الشارع وإحياء الانتفاضة الشعبية، للضغط على الرئيس عون لإجباره على إعطاء الرئيس الحريري كامل الحرية بتأليف الحكومة، من دون نقاش او اعتراض.. وضمان منحها الثقة من قبل كتلة التيار الوطني في البرلمان...
لكن هذه الخطة لفرض حكومة الأمر الواقع، لن يكون مصيرها سوى الفشل من جديد، ويبدو أنها تتجه فعلياً إلى الفشل، بسبب العوامل التالية:
العامل الأول، الإخفاق في دفع الناس للعودة إلى النزول بكثافة إلى الساحات للتعبير عن الاحتجاج والغضب من تدهور أوضاعها المعيشية.. فلم يؤدّ ارتفاع سعر صرف الدولار وتجاوزه عتبة العشرة آلاف ليرة، وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، الى إحياء انتفاضة 17 تشرين الأول، مما أدّى إلى انكشاف المجموعات المنظمة، التي نزلت إلى الشوارع وعمدت إلى قطع الطرقات وحرق الإطارات، فظهرت شبه عارية من الغطاء الشعبي، تقطع الطرقات وتعطل النشاط الاقتصادي ومصالح المواطنين.. بدلاً من الاعتصام أمام مصارف لبنان والمسؤولين من الطغمة المالية الذين يقفون وراء لعبة الدولار وزيادة إفقار عامة اللبنانيين.
العامل الثاني، انكشاف القوى والمجموعات الحزبية، يسهّل على القوى الأمنية قمعها وإحباط مخططها، وهو ما عكسته قرارات الاجتماع الاقتصادي، المالي، الأمني والقضائي في قصر بعبدا برئاسة الرئيس عون، بتكليف، بناء لإشارة القضاء، الأجهزة الأمنية، للعمل على استكمال إقفال المنصات والمجموعات الالكترونية غير الشرعية المحلية التي تحدّد أسعار الدولار تجاه الليرة والتواصل لهذه الغاية مع الجهات الرسمية الدولية والمنصات العالمية الإلكترونية، والطلب الى الأجهزة الأمنية والعسكرية عدم السماح بإقفال الطرقات مع الأخذ في الاعتبار المحافظة على سلامة المواطنين والمتظاهرين وعلى الممتلكات العامة والخاصة، والتأكيد على ضرورة وأهمية إعداد وإقرار مشروع قانون الـ "كابيتال كونترول".
العامل الثالث، موازين القوى، التي حالت دون تنفيذ الانقلاب على المعادلة السياسية حتى الآن، باتت اليوم أكثر ترسّخاً، رغم اشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، خصوصاً، بعد الفشل في تأليب الناس ضدّ المقاومة والعهد.. في حين أنّ حزب الله ورئيس الجمهورية واجها الشرك الجديد الذي استهدف حشرهما في الزاوية، بوعي وتكتيك أحبط خطة الانقلاب الجديدة، وذلك من خلال ما يلي:
1 ـ اعادة قذف كرة تعطيل تشكيل الحكومة في ملعب الرئيس المكلف، عبر كشف وقوفه وراء اختراع الذرائع لتبرير عدم تحرّره من الضغط الأميركي السعودي، الذي يمنعه من تأليف حكومة يشارك فيها حزب الله وحلفاؤه... عندما رفض التجاوب مع مبادرة اللواء عباس ابراهيم، وموافقة الرئيس عون عليها، والتي ترجمها بإعلان تخليه عن التمسك بالثلث الضامن...
2 ـ احتواء تصعيد بكركي الذي تجسد بالدعوة إلى مؤتمر دولي، وتحميل حزب الله والعهد المسؤولية عن الأزمة، وذلك من خلال لغة احتوائية قطعت الطريق على خطة القوات اللبنانية لتحويل بكركي إلى متراس ومنصة لاستهداف المقاومة والعهد.
لقد أصبح واضحاً انّ الخروج من الأزمة ووقف الانهيار يحتاج إلى الضغط لتغيير السياسات الريعية التي تسبّبت بالأزمة، لمصلحة اعتماد سياسات تنموية تقوم على دعم الإنتاج وحلّ المشكلات الخدماتية عبر التوجه شرقاً، وتحقيق العدالة الاجتماعية.. استعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة إلى الخارج، وبالتالي تشكيل حكومة تنفذ هذه السياسات... وإذا كان ذلك غير متاح حالياً، فإنّ تشكيل حكومة توافقية استناداً للدستور توقف الانهيار في القدرة الشرائية، يبقى هو الخيار الأقلّ سوءاً، من استمرار الفوضى والتدهور المستمرّ، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً...