من خلال مُتابعة مسار الإحتجاجات الشعبيّة والمَطالب المَرفوعة من قبل المُحتجّين، وكذلك مسَار الموَاقف الرسميّة من هذه الإحتجاجات وما جرى إتخاذه من قرارات بشأنها، يُمكن القول إنّ الضياع الكامل هو سيّد المَوقف!.
بالنسبة إلى المُحتجّين في الشوارع، وإذا وضعنا جانبًا المَطالب ذات الخلفيّات السياسيّة والحزبيّة التي يرفعها بعض المُتظاهرين، فإنّ أبرز المَطالب المَرفوعة تقتصر على تشكيل حُكومة جديدة، وعلى وقف إرتفاع سعر صرف الدولار! والمُضحك المُبكي أنّ مطلب تشكيل حُكومة جديدة برئاسة رئيس الحُكومة المُكلّف سعد الحريري، وبمُشاركة القوى السياسيّة المُتصارعة حاليًا على أحجام حُصصها وعلى الحقائب التي ستحظى بها، يعني عمليًا العودة جزئيًا إلى حُكومة شبيهة بتلك التي كانت قائمة قبل إحتجاجات 17 تشرين الأوّل من العام 2019، من حيث هويّة رئيسها والوُجود السياسي والحزبي فيها، مُطعّمة جزئيًا أيضًا بحكومة شبيهة بالحكومة الحاليّة المُستقيلة برئاسة حسّان دياب، من حيث تغليفها بشعار وزراء الإختصاص. ولا داعي للتذكير أنّ كلاً من الحُكومتين فشلتا فشلاً ذريعًا في تحقيق أيّ نتائج، لبلّ وبالعكس من ذلك، تسبّبتا بمزيد من المشاكل والأزمات والإنهيارات!.
أكثر من ذلك، إنّ مطلب وقف إرتفاع سعر صرف الدولار الأميركي، لا يُعبّر سوى عن اليأس الذي أصاب أغلبيّة الشعب اللبناني، لأنّ سعره لم يكن قد بدأ بالإنهيار قبل إحتجاجات 17 تشرين الأوّل من العام الأسبق، وهو لم يكن في حينها مُدرجًا ضمن لائحة المطالب الطويلة. أمّا اليوم، فقد صار أقصى ما يتمنّاه الكثير من المُحتجّين هو أن يتوقّف إرتفاعه، لما لهذا الإنهيار المالي من آثار مُدمّرة على قيمة الرواتب في مُقابل إرتفاع أسعار الخدمات والسلع، مع ما يعنيه هذا الأمر من إنتشار مُتزايد ومُتسارع لحالات الفقر والعوز، ومن تهديد جدّي بالجوع! وبالتالي، كل المَطالب الداعية إلى تغيير السُلطة السياسيّة من جُذورها وتطوير النظام، وإلى إجراء الإصلاحات المَطلوبة ومُكافحة الفساد، وغيرها الكثير، صارت مُدرجة في مرتبة مُتدنّية لصالح تقدّم مَطالب وقف إرتفاع الدولار، وفك أسر الودائع المُحتجزة في المصارف، وغيرها من المطالب التي لم تكن مَوجودة عند إندلاع إحتجاجات الشارع قبل نحو سنة ونصف!.
وبالنسبة إلى السُلطة السياسيّة، إنّ حالة إنعدام الوزن هي السائدة أيضًا، حيث أنّ التركيز هو على مُحاربة إرتفاع سعر صرف الدولار، كآفة قائمة بحدّ عينها، علمًا أنّ الإرتفاع هو نتيجة للإنهيار الشامل، وليس مُسبّبًا له! صحيح أنّ مُضاربات ماليّة تحصلّ هنا أو هناك، وأنّ بعض الجهات مُتواطئة في إستغلال أزمة الدولار، لتوجيه رسائل سياسيّة أو لتحقيق مكاسب ماليّة سريعة على حساب لقمة عيش الناس، وهذه ظاهرة يجب مُكافحتها ووقفها بطبيعة الحال، لكنّ الأصحّ أنّ إرتفاع سعر صرف الدولار يرتبط بواقع الإنهيار الإقتصادي والمالي والمَعيشي في لبنان. وبالتالي، إنّ إجراءات تنفيس الإحتقان تكون بمعالجة أسباب الإنهيار وليس نتيجته، لا سيّما وأنّ توقيف صرّاف هنا ومُضارب هناك، لن تُغيّر شيئًا في الواقع المأساوي القائم. وليس بسرّ أنّ من أبرز أسباب إنهيار العملة الوطنيّة، إستمرار المصرف المركزي بطبع الأموال وبضخّها بالسوق من دون أيّ تغطية، ووقف تسديد ديون لبنان الخارجيّة، وتراجع تدفّق الدولارات من الخارج نتيجة العُزلة التي يُعاني منها لبنان حاليًا، وتوقّف كل أنواع الإستثمارات وشلل الدورة الإقتصاديّة الطبيعيّة بشكل تام، إلخ.
إشارة إلى أنّ الخروج من الأزمة الحاليّة لا يُمكن أن يتمّ سوى من خلال سلسلة من الإجراءات المُتوالية والمُترابطة، بدءًا بتشكيل حُكومة، وبإطلاق خطّة للإصلاحات ولإعادة هيكلة القطاع العام ومؤسّسات الدولة، وبالشروع في مُكافحة الفساد ووقف الهدر، تمهيدًا لإجراء مُفاوضات ناجحة مع صُندوق النقد الدَولي، للحُصول على قروض ماليّة وعلى مُساعدات من المُجتمع الدَولي، بما يكفل بإعادة تشغيل الدورة الإقتصاديّة، وبالتالي بتوفير فرص العمل. لكنّ هذا الطريق طويل وشاق، ومليء بالأشواك، وهو لا يُمكن أن يتمّ بالسرعة التي يتخيّلها الكثير من المُحتجّين في الشوارع. أكثر من ذلك، إنّ الحُصول على أموال الدعم من الخارج مُرتبط بتنفيذ الجانب اللبناني مجموعة من الإجراءات المُوجعة، أبرزها رفع الدعم عن كثير من السلع والخدمات الحيويّة، ورفع فواتير مؤسّسة كهرباء لبنان عدّة أضعاف، وتقليص حجم القطاع العام وترشيد التعويضات والمساعدات له، إلخ. علمًا أنّ كلّ بند من هذه البُنود كفيل بتفجير "ثورة" جديدة عند تطبيقه!.
في الخُلاصة، في ظلّ كل هذه المُعطيات المَذكورة أعلاه، لا يُمكن القول سوى كان الله في عون لبنان وفي عون اللبنانيّين جميعًا لتجاوز هذا النفق المُظلم والطويل، بأقلّ مآس وخسائر مُمكنة!.