لفت مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، إلى أنّ "كثيرون منّا يذكرون لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري تساؤله تساؤل العالم مرارًا: لماذا ينشئ الناس دولًا وأنظمة؟ وكان يجيب نفسه ومحاوريه: ينشئ الناس الدول والأنظمة لصون انتمائهم، وتحسين ظروف حياتهم، والعمل مع دولهم وأنظمتهم على إعداد مستقبل لأجيالهم وأطفالهم وذويهم وبني قومهم". وأشار إلى أنّ "الحريري قد غادرنا أو غادر كثيرون منّا، وفي طليعتهم معاني الدولة والنظام والدستور والمستقبل. هو منظر هذه الأيّام وفي سائر الأيّام لشبابنا وشيوخنا ونسائنا وأطفالنا تائهين في الشوارع، يتشاكون الفقر والجوع وفقد الحيلة، وفقد الأمل بدولتهم وحاضرهم ومستقبلهم".
وتوجّه، في رسالة إلى اللبنانيّين بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج، إلى "المسؤولين الّذين لا يأبهون لمسؤوليّاتهم الّتي من المفروض أنّهم تصدّوا لها، وحصلوا على مناصبهم بحجج أداء مقتضياتها"، متسائلًا: "لماذا يفتقد الناس المعذّبون كلّ ثقة بكم، ولماذا وبسبب اليأس منكم يلجأ العقلاء لالتماس الحلول الإنقاذيّة من الخارج القريب والبعيد؟ أوَليس من البديهيّات أن تكون لدينا حكومة مسؤوليّة، كما في سائر دول العالم؟".
وأوضح المفتي دريان "أنّنا نعرف والعالم يعرف الحكومات المستبدّة، لكن العالم كلّه لا يعرف الحكومات الغائبة. الحكومات هي السلطات التنفيذيّة الّتي يعهد إليها الناس بالمسؤوليّات. وفي حالتنا البائسة واليائسة، لا نعرف كما لا يعرف سائر المواطنين إلى من وإلى أين نتوجّه ويتوجّهون. لقد صمّت آذانكم ولم تسمعوا صرخات الشباب في الشارع من اليأس والغضب، فما حرّكت لديكم هذه الصرخة المدوّية أيّ دافع وطني أو إنساني". وبيّن أنّ "هكذا فإنّكم لا تعرضون حلولًا، بل ولا تكتفون بذلك، بل إنّكم تمنعون الحلول بالقوّة، ثمّ تزجّون بالقوى العسكريّة والأمنيّة لإخراج الغاضبين من الشارع".
وتوجّه إليهم قائلًا: "يا جماعة، اسمحوا بتشكيل حكومة تتصدّى للمسؤوليّات الهائلة والمتراكمة، ثمّ راقبوها وحاسبوها، أمّا الحال الحاضر فلا يقبل به ولا يفهمه أحد بالداخل أو بالخارج. وبصراحة وبدون مواربة: إمّا حكومة بالأمس قبل الغد، أو لن يبقى لبناني في بيته، والجميع سيكونون في الشارع".
وشدّد على أنّ "بلادنا هي في زمن الانهيار الشامل. وفي أزمنة الانهيار، تستيقظ لدى البشر نوازع متضاربة. لقد تحوّل اللبنانيّون القادرون أو نصف القادرين أو ربعهم، إلى أعمال الخير والمساعدة والتضامن. وقد مدّت جماهير غفيرة أيديها إلى إحسانات الخارج". وذكر "أنّني أشهد وأنا مثل غيري، أتابع بقدر الاستطاعة، أنّ المواطنين اللبنانيّين، وكلّ منهم يفعلون أكثر ممّا يستطيعون. لكن هذا كله غير كاف على الإطلاق، بل نرى أنفسنا مضطرّين للعودة إلى تساؤل الحريري: لماذا ينشئ الناس دولا وأنظمة؟ ما الحاجة للدولة إن لم تنهض بواجباتها نحو مواطنيها؟ وهذه فكرة خطيرة لها عواقب أخطر".
وفسّر دريان أنّه "إن انتفت الحاجة للدولة بسبب عدم قيامها بأيّ من مهماتها تجاه مواطنيها، فإنّ الفوضى المدمّرة هي الّتي تحلّ محلّها. وهو الأمر الّذي نخشاه جميعًا، وسط انغماس المسؤولين غير المسؤولين في التناحر على صغائر الأمور قبل كبارها". وأفاد بأنّ "عاقلًا من بلادنا قال لي: عندما يستشري الاضطراب، ينبغي العودة للثوابت للانطلاق منها من جديد. وثوابتنا العيش المشترك والميثاق الوطني والدستور. وما رأيت في أيّ من هذه الثوابت أنّ المصالح العامّة يمكن أن تصان بدون حكومة مسؤولة".
كما أشار إلى أنّه "قد كلّت الألسنة، وعزّ الصبر، وصار الفساد السياسي تهمة خفيفة إذا قورن بهذا الإصرار على الانتحار. وكل يظنّ أنّ الآخرين سيموتون قبله. ويا للحسرة، فالّذي أخشاه أن تكون آجال الجائعين أقصر من آجال المسؤولين غير المسؤولين، والعزاء على أيّ حال، أنّ الأعمار بيد الله وليس بأيدي البشر".
وركّز على أنّ "لبنان بات يتأرجح ما بين الحياة والموت، وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، فماذا يا أولي الأمر أنتم فاعلون؟ تركتم اللبنانيّين لمصيرهم، يواجهون الظلم والقهر والتحديات وهم عزل، أضعتم الوطن وهدمتم الاقتصاد، وسلبتم الناس جنى العمر ومستقبل أولادهم، وأورثتموهم الفقر والذل والهوان، وتركتموهم في حال من الضياع، لا أمن ولا أمان، ولا راع ولا رعاة، يلهثون وراء لقمة العيش فلا يجدونها، وإن وجدوها فلا يملكون ثمن شرائها".
ورأى دريان أنّ "ما حصل وما يحصل مأساة يعيشها اللبنانيّون جميعًا، ولكن المأساة الحقيقيّة، المأساة الفجيعة، هي في من يتولّى أمور البلاد، وهو عنها غافل أو غير سائل. المأساة الفجيعة، هي في من ولّاه الشعب مسؤوليّة إدارة البلاد، وتثبت التجربة أنّه ليس أهلًا لهذه المسؤوليّة. المأساة الفجيعة، هي في من أَوكل إليه اللبنانيّون، جميع اللبنانيّين الأمانة ولم يكن جديرًا بهذه الأمانة فأضاعها".
وأوضح أنّكم "قد أدخلتم لبنان والناس في المهالك وتخلّيتم عنهم. أهدرتم كرامة اللبنانيّين في خلافاتكم ونزاعتكم وانقساماتكم، هم براء من أفعالكم وتبعات ما تفعلون. أفقدتم ثقة العالم بلبنان وبقدراته وطاقات شعبه، ورفضتم بتعنّتكم وأحقادكم وجشعكم وأنانيّاتكم مساعي العالم لمساعدة لبنان في حلّ مشاكله وإنقاذه، وأبقيتموه في العتمة، واخترتم أن يبقى غارقًا في الظلمة والظلام، وأطفأتم بجهالتكم وظلام قلوبكم قبسًا من نور يلوح".
ولفت إلى أنّ "اللبنانيّين ما عادوا يركنون إليكم، ولا إلى توليكم الأمور، وتهالككم على السلطة، فأنتم ما أدركتم حجم أوجاعهم وحرمانهم. وما أصغيتم إلى عقلائهم ولا إلى حكمائهم ودعواتهم للتعقّل وتحكيم لغة الحوار والعقل والمنطق، وترجيح مصالح الوطن على مصالحكم الخاصّة، ممّا اضطرّهم إلى الالتجاء إلى مخاطبة العالم، بعد التخلّي المفجع والمخجل لأولي الأمر منكم عن مسؤوليّاتهم طلبًا للخلاص، خلاص الوطن، وإنقاذ الشعب من حالة الفقر والجوع والموت، وإنقاذ البلاد من الانفجار الكبير الّذي ينتظرهم".
إلى ذلك، أعلن دريان أنّ "موقفنا واضح لا لبس فيه لا تردّد، نحن مع اللبنانيّين في مطالبهم الإنقاذيّة، نحن مع إنقاذ البلاد من هول ما تعدنا به الطبقة الحاكمة، نحن مع الدستور، مع "اتفاق الطائف"، مع معالجة الأوضاع الاقتصاديّة والحياتيّة والمعيشية، نحن مع عودة لبنان إلى حياته الطبيعيّة، مع إنمائه وازدهاره، مع التأكيد على العيش المشترك، العيش المشترك الإسلامي- المسيحي- الآمن والكريم والمستقر، نحن مع عروبة لبنان وحضوره العربي، ودوره في كلّ المجالات، نحن مع لبنان وطنًا سيّدًا حرًّا مستقلًا، وطنًا نهائيًّا لجميع أبنائه، نحن مع وحدة لبنان ووحدة اللبنانيّين، لا فرز للشعب على أساس أيّ انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين، يقول الدستور".
وجزم أنّ "هذا هو موقفنا الواضح والصريح والقاطع، ونؤكّد ما أكّد وأجمع عليه أصحاب السماحة والغبطة والسيادة، رؤساء الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة في بيانهم الجامع، حول ما آلت إليه الأوضاع المأساوية في لبنان، على التمسّك بلبنان الواحد، أرضًا وشعبًا ومؤسّسات، والولاء للوطن اللبناني والدولة، والعيش المشترك الإسلامي- المسيحي والنأي به عن الصراعات الخارجيّة والحسابات الشخصيّة والطموحات القاتلة، والحفاظ على السلم الأهلي الداخلي، وتطبيق "اتفاق الطائف" نصًّا وروحًا، والإسراع في تشكيل حكومة مهمّة تعالج مشاكل لبنان الاقتصاديّة والمعيشيّة، وتنقذه من حالة الانهيار والضياع، وتعيده إلى حالة الأمن والسلام الداخلي".
وأفاد بـ"أنّنا نرفع الصوت عاليًا بوجه كلّ من يتولّى الشأن العام وإدارة البلاد، أن أوقفوا العبث بمصير الوطن والدولة، وأنقذوا البلاد من عبث العابثين، وظلم الظالمين. اللهم إنّا قد بلّغنا، اللهم إنا قد بلغنا، اللهم فاشهد".