عبثاً يحاول المراقبون ان يجدوا اليوم بصيص نور لنهاية النفق الذي يعيشه اللبنانيون منذ بداية الإنهيار. فهذا الشعب الذي طالما تعايش مع عدم وجود حكومة او فراغ رئاسي، لن يتعايش مع ثلاجاته الفارغة وعدم حصوله على جنى العمر وودائعه المحجوزة في المصارف. فإلى أين ذاهبٌ لبنان؟.
تتمسك شريحة من اللبنانيين وتحديداً المسيحيين منهم بحبال الأمل والرجّاء، تارة من بوابة بكركي التي تصل الى حدود الفاتيكان، وطوراً من نافذة الأمم المتحدة، كون هذه الفئة لا تملك صفة رسميّة لمخاطبة المنظمة الدولية الا من شبّاك ضيّق. فهل يُنقذ الفاتيكان اللبنانيين بشكل عام والمسيحيين بشكل خاص هذه المرة. ومع إعلان قداسته الوعد بزيارة لبنان، يبدو ان تحرّك الفاتيكان مناصراً لبنان جدي، بعد وصف البابا فرنسيس له بأن هذا البلد يعيش أزمة وجود.
ويحضر السؤال: لطالما وضَع الفاتيكان لبنان على أجندته في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، الذي وصفه بـ"وطن الرسالة"، ولطالما اهتم البابا بنديكتوس السادس عشر بمسيحيي لبنان، بقي المسيحيون يعانون ولم يكن لدى البعض منهم خياراً سوى الهجرة. فهل باستطاعة البابا فرنسيس انتشال أبنائه في لبنان من الجوع والتهجّر، وكيف؟.
إن الأزمة اللبنانية المعقّدة ليست سيّاسية بقدر ما هي انهيار جمهوريّة، بعدما نَهَبَ حكّامها قدرات الدولة على مدى ثلاثين عاما، إضافة الى سياسة نقدية خاطئة، كان سبق لصندوق النقد الدولي أن أنذرهم بذلك في الخمس سنوات الماضية... ولكن لا "حياء" ولا إدراك لمن تنادي.
ماذا عن تدويل الأزمة اللبنانيّة؟ فلبنان المُدوّل في الأصل منذ ولادته، لا يستطيع ان يؤلّف حكومة بدون استشارة نصف دول العالم، لبنان المدوّل لم ينتخب في حياته رئيساً "صُنع في لبنان" من دون مباركة الدول العظمى والجارة والإقليميّة. لبنان المدوّل يدفع شبابه إما الى الإستشهاد او الى الهجرة، ثمن عدم قدرته على حلّ مشاكله والنهوض بدولة قوية قادرة على مواجهة التحديات. والمتأمّلون خيراً انهم يستطيعون الخروج من الأزمة من بوابة الأمم المتحدة، لا يعرفون حجم لبنان ومكانته في الأمم المتحدة... وَحْدَه قائد الجيش جوزاف عون تنبّه الى عدم اهتمام المجتمع الدولي بالقضية اللبنانيّة بعدما شاهد صورة لمدخل مجلس الأمن، أشبه بجزيرة الأشباح، خلال جلسة حول تنفيذ القرار 1701.
ويأسف المراقبون في الأمم المتحدة على بعض اللبنانيين الذين يأملون من الأمانة العامة ان تساعدهم في إرسال "لجنة تقصي حقائق" للمشاركة في كشف أسباب جريمة العصر في بيروت بالانفجار الّذي حصل في المرفأ في الرابع من آب عام 2020. فمع ان العالم بأسره اهتز لدويّ هذا الإنفجار بمن فيه المسؤولون في المنظمة الدولية، يخفى على المطالبين بهذه اللجنة أنّ الأمانة العامّة تعيش اليوم سباقاً جديداً لمنصب الأمين العام، بعد أن تنتهي ولايته مع نهاية 2021. يكفي ان نشير الى أن "النشرة" حاولت جاهدة الإستسفار على تجاوب الأمم المتحدة في قضية التحقيق في انفجار المرفأ، ومساعدته للخروج من أزمته، لكن لا جواب من مكتب الأمين العام حتى نشر هذه السطور، او من مكتب الأمين العام المساعد للشرق الأوسط خالد خَياري، الذي رمى بجوابه كرة لبنان في ملعب مكتب الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش حيث لا يجيب الناطق الرسمي ستيفان دوجاريك عن السؤال حول لبنان.
ويسأل البعض، لماذا هذا التنصّل الأممي الواضح من المساعدة في كشف جريمة العصر... الجواب سهل. ان السيّد غوتيريش، المرشح لدورة ثانية لمنصبه، يبتعد اليوم عن كلّ ملفّ شائك في العالم، بما فيه ملفّ لبنان وأزمته ونداءات شعبه لمؤتمر دولي برعاية المنظمة. لن نستغرب هروب الأمين العام من المشاركة في أيّ نشاط يخصّ لبنان او غيره، لأنه سيرتّب عليه ربما "حرَد" روسيا او استنكار الصين، او غضب الولايات المتحدة او دول الغرب، وهو اليوم بحاجة الى دعم ورضى كل دول العالم القويّ للبقاء في الأمانة العامة للدورة المقبلة.
ولكي نستشرف المستقبل بعد تهرّب مكتب الأمين العام من الإجابة على السؤال اللبناني، لا بد من قراءة سريعة لتدخّل غوتيريش في حلّ الأزمات الدولية... فهو مثلا رفض التدخل في أزمة سدّ النهضة مصدر الخلاف بين مصر واثيوبيا على الرغم من النداءات الدولية، كذلك لم يشأ التدخّل في أزمة كشمير، التي تصب في تغيير الطبيعة السكانّية للمنطقة، فالأمين العام أعطى أذنًا صمّاء لهذا النزاع مع باكستان، ربما إسترضاء لدولة الهند الصاعدة، الداخلة بعزم الى مجلس الأمن في السنتين المقبلتين... ويحضر الى الأذهان فشل الأمين العام في تعيين مبعوث له في الصحراء الغربيّة بعدما وقع في حيرة من سيرضي، فرنسا ام روسيا؟.
خلاصة القول، ان الأمين العام كان يسير بين الألغام خلال السنوات الثلاث الماضية، وسيشتد حرصه في التعامل مع الملفات في هذه السنة المصيريّة، فإما ان يرحل وإما يبقى لدورة ثانية. ويبدو أنه راغب وقد قدّم ترشيحه، وحتى هذه الساعة لا ترى الدول العظمى مشكلة في بقائه في منصبه كأمين عام للأمم المتحدة، وعليه منذ اليوم، ألاّ يغوص في ملفّات دولية شائكة حتى ولو كانت لنصرة الحقّ والعدل، فالعدل احياناً يضيع تحت أقدام الكبار متى حلّت الإستحقاقات.