أن تنخفض قيمة العُملات الوطنية في الإقليم، دفعة واحدة، فلا علاقة للأمر بالإدارات المحلية لا السياسية ولا المالية.
من لبنان الى سوريا، وقبلهما كانت إيران، وتركيا، ودول إقليمية أخرى، شهدت تراجع أسعار العُملات الوطنية أمام الدولار، إلى حد طرح فيه سؤال إستراتيجي: هل صار الدولار الأميركي بديلاً من المدفع؟.
مضى عقدٌ من الزمن على إشتعال أزمات الإقليم عسكرياً وسياسياً من دون إستطاعة الغرب أو حلفائهم العرب الوصول الى كسر "محور المقاومة". لم يستطع الغرب أن يفرض هزيمة المحور المذكور، عبر تغذية النزاعات التي إستولدتها الأزمات المتواصلة، او عبر دعم مجموعات مسلحة. لكن حلّ الحصار والعقوبات الإقتصادية بحق العواصم المعنيّة، وتحديداً ضد طهران ودمشق، فشكّلوا وجهاً مؤلماً من وجوه الحرب على الدول المُستهدفة.
وإذا كانت إيران تعتمد على قدرات زراعية وصناعية إنتاجية ذاتية، تحدّ من الإستيراد، فإن العقوبات منعتها من تسويق إنتاجها أو بيع النفط والغاز: لماذا لا تسهّل تركيا وصول الغاز الإيراني إلى أوروبا؟.
أمّا سوريا التي كانت ترتكز إلى بنية إقتصادية متينة، فهي تعرضّت للتدمير الممنهج عبر عمليات مدروسة شنّها المسلحون طيلة السنوات الماضية على المنشآت الحيوية في مختلف المناطق السورية. لتسجّل حلب وجوارها أكبر عمليات نهب للمصانع والمعامل بإتجاه تركيا. ثم جاءت سيطرة "داعش" والكرد على مساحات زراعية واسعة في الشمال والشرق فحرمت السوريين من منتوجاتهم.
شكّلت تلك السرقات والتدمير الممنهج ضغوطاً على الليرة السورية، لكن الإستهداف المباشر للعملة الوطنية في دمشق جاء في سياق القرارات المتخذة لفرض إستسلام المحور المذكور. ومن هنا، يأتي قرار تجفيف الدولار من الإقليم، فماذا يجري الآن؟.
كان العراق يضخّ عشرات ملايين الدولارات أسبوعياً في سوق التداول، فيتحرك معظمها عبر التجارة والإستيراد نحو سوريا ولبنان، الاّ ان بغداد اوقفت ضخ الدولار في الفترة الحالية، بسبب تقديرات وحسابات عراقية سياسية ومالية، مما ساهم في تجفيف السوقين اللبناني والسوري من الدولار.
تتحدث معلومات عن سعي رجال أعمال في البلدين المذكورين الى شراء كميات كبيرة من الدولار، من دون اتضاح مسارها: ماذا يفعلون بالعملات الصعبة؟ هل هي للتخزين فقط؟ أم ان هناك تكراراً لمشهد اتلافها مقابل الحصول على أضعاف قيمتها في بنوك غربية؟. مما يعني سحب "الكاش الأخضر" من السوق، فيزداد الطلب عليه، ويرتفع سعره.
يُحكى أن الإتلاف كان حصل في سنوات مضت بإشراف محامية تعمل لصالح دولة عظمى، بهدف تجفيف ساحات إقليمية من الدولار، مما يسرّع الآن في انهيار العملات المحلية، وبالتالي رضوخ الدول المُستهدفة للإملاءات.
يساهم ناشطون في تنفيذ المشروع عبر المنصّات: من يحدد الأسعار على الشاشات؟ ما هو مشروعهم؟ يبدو أن محددي سعر العملة الوطنية مقابل الدولار يرتبطون بأجندة سياسية تخدم الهدف ذاته: المساهمة في تجفيف الإقليم من الدولار.
لذا، فإن الحرب الماليّة تشتد، وهي تشهد سخونة حالياً بسبب التفاوض السياسي القائم في أكثر من إتجاه.
ومن هنا تُطرح الأسئلة ايضاً عن مدى نجاح روسيا في مشروعها التسووي في الإقليم: هل تسمح الدولة الأميركية العميقة بأن تصل موسكو لتوافقات إقليمية؟ وهل تتفرج إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على تقدّم خيارات الروس في الإقليم؟.
بالمحصلة، لا يرتبط تهاوي أسعار العملات الوطنية مقابل الدولار بسياسات محلية، بل هو يأتي نتيجة قرارات خارجية تنفّذ عبر أدوات عدة، لكن هلع الناس والتجار للحصول على الدولار يرفع من سعره أيضاً. فإذا استطاع لبنان النجاح في تأليف حكومة جديدة، قد تسترجع الليرة جزءاً بسيطاَ من قيمتها، لكن قرار ضرب الليرة يرتبط بهدف يتعدى الحدود الوطنية.
اما سوريا التي تواجه حرباً منذ اكثر من عشر سنوات، فهي تُعاقب بسبب خياراتها السياسية، ولم يجد الغرب وسيلة متوافرة لضرب صمودها، بعدما جرّب كل السبل العسكرية والسياسية والدبلوماسية، سوى فرض تنفيذ "قانون قيصر" وطحن الليرة السورية عبر تجفيف الساحة السورية من الدولار.
ومما يزيد من حجم أزمة الليرة السورية أن المصارف اللبنانية تحتجز مليارات الدولارات لمودعين سوريين، لذا فإن الارتباط بين العملتين السورية واللبنانية قائم، سواء في تراجع القيمة او بالنهوض، في وقت يفتقد فيه الإقليم للدولار المطلوب: فهل تتهاوى عملات أخرى ايضاً بعد خسارات عملات السودان ومصر وتركيا واليمن وإيران؟.