لا شكّ أن المرحلة التي يمر بها لبنان غير مسبوقة وسط أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، باتت تسحق اللبنانيين سحقاً. ويبدو الانهيار الاقتصادي رأس جبل الجليد، بعد نهب منظّم للخزينة العامة، وفي ظل سياسات اقتصادية أفقرت لبنان، وشجعت الريع والزبائنية. لكن الاستعصاء اللبناني يبدو أوسع بكثير، ليشمل ما يلي:
1- الدستور اللبناني نفسه
يبدو الدستور اللبناني بتعديلاته التي أقرّت في الطائف، سبباً من أسباب التعطيل السياسي، اذ تغيب النصوص الدستورية التي تسمح بحلّ دستوري قانوني حين يتحوّل الاستعصاء السياسي الى مشكلة كالتي نشهدها اليوم، كأن يتمّ الاحتكام الى صناديق الاقتراع أو حلّ البرلمان أو سواها.
زد على ذلك، إن الدستور نفسه لم ينصّ على مهل دستورية، لا لرئيس الجمهورية للدعوة الى استشارات نيابية يلزمه باجرائها في حال استقالة الحكومة، ولا مهلة لرئيس الحكومة المكلّف بتشكيل الحكومة، تمنعه من أن يضع التكليف في جيبه ويجوب العالم غير آبه بالأزمات المتفاقمة.
- الدولة العميقة وتعطيل التدقيق الجنائي
بعد كل الأزمات التي شهدها لبنان على مدى سنة ونصف تقريباً، وبعد التوتر والتصرفات الميليشياوية في الشوارع اللبنانية التي أعادت الى الذاكرة ممارسات الحرب الأهلية، يرى اللبناني أن ما حصل هو انعكاس حقيقي لكلام سماحة الإمام موسى الصدر، الذي وصف السياسيين اللبنانيين بأنهم "بلا قلب" وأنهم "لا يتوانون عن اللجوء الى حرب أهلية للحفاظ على امتيازاتهم".
وبالفعل، إن ما حصل في الشوارع اللبنانية من رسائل سياسية تصب جميعها في اتجاه الرئيس عون، تعطينا فكرة واضحة أن الموضوع الرئيسي الذي يهم الطبقة السياسية اليوم هو تعطيل التدقيق الجنائي بأي شكل من الأشكال، حتى لو تمّ سفك الدماء في الشارع. وعليه، وجدنا الدولة العميقة بكافة سياسييها وإعلامييها وأمنييها وبنوكها الخ، قد نزلت بثقلها في المعركة للحفاظ على تلك الامتيازات.
- خوف الطوائف
يعكس كلام القيادي في تيار المستقبل الدكتور مصطفى علوش الى صحيفة "القدس العربي" بتاريخ 13 آذار 2021، حقيقة ما تعيشه معظم المجموعات اللبنانية الطائفية، من هواجس وخوف. يقول علوش أن "السنّة في لبنان هم الطرف الأكثر ضعفاً وهشاشة بين الطوائف اللبنانية كونهم متروكين في ظل انعدام موازين القوى في الإقليم". ويخشى علوش من "تفكك البلد" وبالتالي حصول فراغ في مناطق السنّة و"فوضى مفتوحة قد يصبح معها التدخل التركي بتفاهم دولي هو الحلّ لضبط تلك الفوضى في ظل غياب الخيارات الأخرى".
وعلى المقلب المسيحي، يشعر المسيحيون أيضاً بالخوف والقلق على المصير كما معظم اللبنانيين، وتزداد هواجسهم في ظل محاولات الرئيس المكلف سعد الحريري الاستئثار بتسمية الوزراء السنّة والمسيحيين معاً، في محاولة منه لتكرار تجربة والده في الحكم، وتهميش دور المسيحيين كما في التسعينات.
- التوتر الاقليمي
تنتظر الشعوب في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن، نتائج السياسة الاميركية الجديدة في المنطقة بعد إعلان الرئيس الأميركي "جو بايدن" نيّته الانفتاح على ايران والعودة الى الاتفاق النووي. ولا شكّ، ان تطورات هامة تنتظر المنطقة في الاشهر القليلة المقبلة، أهمها: نتائج المعركة الميدانية في اليمن، الانتخابات الاسرائيلية، والانتخابات السورية، والانتخابات الايرانية في حزيران القادم، والتي سينتظر الاميركيون نتيجتها للانطلاق الجدّي في العملية التفاوضية.
إذاً، هي مجموعة عوامل متشابكة تدفع الى الاستعصاء في لبنان، ولكن حلّها - ولو بدا مستحيلاً اليوم- لن يكون مستحيلاً غداً. المدخل الحقيقي للحلّ، يبدأ من العامل الأقليمي الذي ستُفتح بعده مجالات الحلول الداخلية. أما الخطأ الذي نتمنى أن لا يقع فيه اللبنانيون، هو أن يتم الاكتفاء بانسحاب التسوية الاقليمية على الداخل، فيتم "الترقيع" بدون حلّ شامل لكل العقد الداخلية الأخرى، وأهمها تعديل الدستور اللبناني.