بوتيرةٍ مكثّفة ومتصاعدة، تتمدّد التحذيرات الدولية من انهيار "شامل" في لبنان، سياسيًا على وقع الجمود الحكوميّ المستمرّ منذ أشهر، واقتصاديًا على وقع الانهيار الماليّ وتدهور سعر الصرف، واجتماعيًا كنتيجةٍ طبيعيّة له، وأخلاقيًا بفعل "اجتماع" العوامل السالفة الذكر.
في عطلة نهاية الأسبوع، كان اللبنانيون على موعدٍ مع فصولٍ جديدة من هذه التحذيرات، توّجتها الولايات المتحدة، من خلال الدعوة التي وجّهها المتحدّث باسم وزارة خارجيتها نيد برايس إلى القادة السياسيين في لبنان لوضع "مزايداتهم الفئوية" حانبًا، وتغيير سلوكهم.
قبل برايس، حضر الملفّ اللبنانيّ على "مائدة" وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي ترجم شعار "كلّن يعني كلّن"، بهجومٍ "شامل" على السياسيّين، الذين قال إنّهم، "جميعهم أيًّا كانوا"، لا يساعدون بلدًا يواجه مخاطر، رغم أنّ "مصير" البلد برمّته بيدهم.
ولم يكن الموقفان الفرنسي والأميركي "معزوليْن"، فقبلهما كان موقفٌ روسيّ عبّرت عنه موسكو على هامش اللقاء بين وزير خارجيتها سيرغي لافروف ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، وبينهما كان "قلق" مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، على لبنان، ومن قادته.
وإذا كانت كلّ هذه المواقف "تتقاطع" عند "ثابتة" وجوب تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، وقبل ذلك قادرة على تلبية احتياجات اللبنانيّين، والعبور بهم إلى "برّ الأمان"، فإنّ مشكلتها، بعيدًا عن "التشكيك المشروع" بنواياها، أن التعامل معها لم يعد يتجاوز حدود "التطنيش"!.
"سرّ" التحذيرات المكثّفة
يحلو لكثيرين التقليل من شأن التحذيرات الدولية، وقبل ذلك "التشكيك" بنوايا العواصم الغربية التي تدّعي "الخوف والقلق" على لبنان، انطلاقًا من مبادئ وشعارات "الحرية والسيادة والاستقلال" التي يرفعها اللبنانيون، ولو أثبتت دولتهم "عجزها" إلى حدّ بعيد.
ثمّة في هذا السياق من لا يجد حَرَجًا في إحاطة التحذيرات الدولية المكثّفة والمتتالية للبنان، بعشرات علامات الاستفهام حول الأهداف "المريبة والمشبوهة" من خلفها، خصوصًا في ضوء النظرية الذائعة الصيت عن أنّ دول العالم ليست جمعية خيرية، ولا تعنيها سوى مصلحتها.
لكن، بعيدًا عن التشكيك، وإن كان "مشروعًا" في الظروف العاديّة، قد يكون من المستحيل "نكران" أنّ اللبنانيين يوفّرون كلّ الظروف الملائمة لمثل هذه التحذيرات، بل إن "القلِقين" من تدخّلاتٍ دوليّة يوفّرون "البيئة الخصبة" لمثل هذه التدخلات، تحت عنوان "الضرورة".
يكفي للدلالة على ذلك رصد الواقع "الكارثيّ والمأسويّ" الذي يعيشه اللبنانيون هذه الأيام، والذين يخرج بينهم من "يبشّر" بأنّ الأسوأ لم يأتِ بعد، وبأنّ ما يحصل لا يعدو كونه "بروفا" لما ينتظرنا في القادم من الأيام، عندما نصبح فعليًا في قلب "جهنّم"، وبالمعنى الحرفيّ.
ولعلّ "الجنون" الذي شهده سعر الصرف في عطلة نهاية الأسبوع يعطي "عيّنة" بسيطة عن واقع الحال هذه الأيام، مع تسجيل الدولار مستويات قياسية، وتحقيقه "قفزة" غير مسبوقة في غضون أيام قليلة، أطاح معها بالحدّ الأدنى للأجور الذي بات يقارب 50 دولارًا.
وقد تكون "الإشكالات المتنقّلة" بين المتاجر الكبرى عيّنة أخرى على "فوضى" بدأت تتكرّس على أرض الواقع، فيما لا يبدو "لوم" المواطن خيارًا مُتاحًا، بعدما "تآكلت" الطبقة الوُسطى، وازدادت نسبة الفقر، وبات الخوف على المستقبل أكثر من مشروع وبديهيّ.
"ساعدونا لنساعدكم"
إزاء كلّ ما تقدّم، قد يكون أداء السلطة "المُستفِزّ" كارثيًا بدوره، ففيما ينتظر اللبنانيون تحرّكًا من "رموز" الطبقة السياسية، الذين يتحمّلون مسؤولية، ولو نسبيّة ومتفاوتة، في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، اختار هؤلاء أن يشاركوا المواطنين الشكوى، بل حتى "النقّ".
هكذا، وعلى وقع تلويح رئيس حكومة تصريف الأعمال بالاعتكاف، في "سابقة" غير دستورية ولا قانونية، خرج وزير الداخلية ليشكو "انفلاتًا أمنيًا" متوقَّعًا، ووزير الطاقة ليحذر من "ظلام دامس"، ووزير التربية ليعلن "إضرابًا" على نفسه، واللائحة تطول ولا تنتهي.
من هنا، قد يكون من المُجدي على السلطة "المراهنة" على مجتمع دوليّ "لن يترك لبنان ينهار"، وفق القاعدة "السحريّة" المتداولة، وغير المبنيّة على قواعد أو أسُس سليمة، أن يتمعّن في قراءة "الرسائل" غير المشفّرة ولا المبطنة، خلف التحذيرات الدولية المتصاعدة.
وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ التحذيرات المستجدّة جاءت، مرّة أخرى، "متناغمة" مع الشعار المُعلَن منذ أسابيع، والذي يستند إلى المقولة الشهيرة التي أطلقها الفرنسيّون، وتوّجوها بمبادرتهم الشهيرة التي "تنازِع" اليوم، وعنوانها "ساعدونا لنساعدكم".
في كلام لودريان، كما في التصريحات الأميركية والبريطانية والروسية وغيرها، برز "صدى" هذا الشعار، حيث لفت الإصرار الدوليّ على أنّ الكرة لا تزال في ملعب القادة اللبنانيّين، الذين تبقى على عاتقهم مسؤولية الخطوة الأولى في مسار "الإنقاذ".
قالها المجتمع الدولي مرّة أخرى، بمُعزَلٍ عن نواياه الحقيقية، حسنة كانت أم مشبوهة، والمطلوب أن يباشر اللبنانيون بتطبيق الإصلاحات "الموعودة" منذ أيام مؤتمر سيدر، بما يتيح "تحرير" المساعدات، التي لم يعد "أصدقاء لبنان"، جاهزين لتقديمها "بالمجّان"، أيًا كانت الإغراءات.
"الطامة الكبرى"
بعيدًاعن مناخ "التشكيك" بالنوايا الدولية، الذي يتصدّر كلما خرج موقف عن عاصمة ما حول الملف اللبناني، تبقى "المفارقة"، أو ربما "المصيبة" وفق ما يرى البعض، في طريقة التعاطي اللبنانية مع التحذيرات، والتي تدرّجت بالتراجع ككلّ ما عداها.
ففي البدء، كان لكلّ كلمة تُطلق حول لبنان اعتباراتها في القاموس اللبناني، وكان كلّ "قلق" يتمّ التعبير عنه في هذه العاصمة أو تلك، يُقابَل لبنانيًّا بمحاولات "تطييب خاطر"، أو بالحدّ الأدنى "تبرير" الظروف التي تملي على هذا الفريق أو ذاك اعتماد "تكتيك" معيّن.
أما اليوم، فبات التعامل مع التحذيرات والمخاوف يتمّ، "وكأنها لم تكن"، حتى أنّ أحدًا لم يتكبّد عناء "التعليق" على التصريحات الدولية، لا من باب "تفهّم الحيثيّات"، ولا من باب "الدفاع عن النفس"، ولا حتى، إذا ما افترضنا "سوء النوايا"، من بوابة "التحدّي"، إن جاز التعبير.
ولعلّ "الطامة الكبرى"، أنّ أيّ ردّ لا يتمّ بالسلوك، ولو بما يصبّ في المصلحة اللبنانية العامة، حتى أنّ أحدًا لم يشعر بأيّ "ضغط" بفعل التصريحات، بدليل أنّ الملفّ الحكوميّ "الجامِد" منذ فترة، لم "يتحرّك" في الأيام القليلة الماضية، في واقعٍ لا يبدو قابلًا للتغيير عمّا قريب...