لم يقتنع اللبنانيون بعنوان زيارة قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكنزي والسفيرة الاميركية في بيروت دورثي شيا الى بلدة غزة البقاعية، التي قيل إنها كانت "للإطلاع على مشروع حفر بئر ارتوازي يعمل على الطاقة الشمسيّة تموّله الوكالة الأميركية للتنمية المحلية"USAID".
وهل يمكن أن يقطع هذا القيادي الرفيع المسافات من فلوريدا إلى لبنان من أجل معاينة بئر، والإستماع إلى أهميته بالنسبة إلى سكان بلدة لبنانية في زمن كورونا؟ مهما كانت أهمية الماء للمواطنين في تلك البلدة البقاعية، ومهما كان عمق البئر او غزارة إنتاجه، ومهما كانت اكلاف الأميركيين بدل حفره، فهي لا تشكّل اسباباً تدفع أحد أبرز القيادات العسكرية الأميركية لزيارة لبنان الآن.
يمكن هنا الإستناد إلى معطيات تتيح لنا قراءة دوافع خطوة ماكينزي:
أولاً، ضمت واشنطن ملفّ إسرائيل، في شباطالماضي، الى "المنطقة الوسطى" في الجيش الأميركي التي يرأسها ماكنزي، بعدما كانت في خانة منطقة أوروبا.
ثانياً، يطالب الإسرائيليون واشنطن بالسعي لشلّ حركة "حزب الله" ما بين لبنان وسوريا، خصوصاً في جنوب البلدين، ومراقبة المعابر، بعد تزايد شكاوى تل أبيب من تنامي قدرات الحزب المذكور عسكرياً، وإمتلاكه شبكة صواريخ دقيقة تستطيع تدمير الأهداف الإسرائيلية بدقة.
ثالثاً، باشر الروس ترتيب تسويات عدّة في الإقليم، ومن هنا تأتي زيارة وفد "حزب الله" إلى موسكو، وإجراء مباحثات دسمة بشأن ملفّات سوريا والأمن الإقليمي والغاز. بينما كان موضوع تأليف الحكومة اللبنانية هامشياً في الإجتماعين اللذين عُقدا بين وفد الحزب ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونائبه ميخائيل بوغدانوف.
رابعاً، كان أطلق عضو المكتب السياسي في تيار "المستقبل" النائب السابق مصطفى علوش موقفاً تحدث فيه عن إمكانية تدخّل الأتراك في لبنان. وهو موقف لا يُقال في لبنان لأوّل مرة، بل جرى الحديث سابقاً عن وجود نوايا تركيّة بإرسال قوات عسكريّة الى لبنان.
خامساً، رفع قائد الجيش العماد جوزاف عون صوته لحماية المؤسسة العسكرية من الأزمة الماليّة التي يعيشها لبنان. وهو موقف تردّد صداه في عواصم العالم، ومنها واشنطن، ممّا دعا الأميركيين إلى اتخاذ قرار المضي بدعم الجيش اللبناني لمنع سقوطه في فخ الأزمة الإقتصادية.
سادساً، قرّر مجلس الأمناء في كل من الجامعة الأميركية في بيروت، والجامعة اللبنانية الأميركية تقديم دعم مالي للأولى: ٣٠٠ مليون دولار، والثانية: ٧٥ مليون دولار، لمنع انهيار المؤسستين الأميركيتين. مما يدلّ على وجود قرار أميركي بتثبيت صمود المؤسسات اللبنانية التي تدور في فلك الولايات المتحدة.
ومن هنا، يمكن القول إن زيارة ماكينزي الى لبنان، جاءت لتأكيد التزام واشنطن بمساراتها إزاء لبنان نظراً لموقعه وأهمية دوره دعم مؤسساتها التربوية نموذجاً، إحتضان الجيش اللبناني، محاولة محاكاة طلب مراقبة الحدود اللبنانيّة-السوريّة التي كانت أهم اهداف زيارة المسؤول الأميركي الى البقاع. يريد الأميركيون أن تكون تلك المساحة الممتدة من وسط البقاع الى جنوبه تحت أعينهم. لذا، كان تردّد كلام سابقاً عن وجود طبعة ثانية من القرار الدولي ١٧٠١ بما خصّ الحدود اللبنانيّة السوريّة عبر توسيع مهام اليونفيل المتواجدة جنوب لبنان. لكن المعلومات تتحدث عن وجود نوايا تركية أطلسيّة للدخول الى لبنان تحت عنوان مراقبة الحدود البرّية مع سوريا، وهنا يمكن تفسير الكلام عن دور تركي محتمل، غير انه أمر خطير يشكّل استفزازاً للبنانيين الرافضين لأيّ دور تركي في أيّ بقعة جغرافيّة، بعدما ساهمت أنقره في تدمير سوريا وتهشيم قدراتها الصناعيّة، ومحاربة أيّ دور عربي في المنطقة.
وبالإنتظار، لا يمكن فصل ملفّ الحدود اللبنانيّة السوريّة عن الاتصالات الجارية بشأن الإقليم، وتحديداً حول سوريا. وهنا يصبّ جوهر توجه ماكنزي الى البقاع واجراء لقاءات بشأن الحدود اللبنانيّة البريّة.
واذا كان التوتر الروسي-الأميركي موجوداً بكل الإتجاهات، فإن موسكو تستطيع ان تنجح بأدائها في سوريا وبالتالي لبنان، مدعومة من كل الأفرقاء، في وقت لا تشاكسها واشنطن في هذا الملف، فهل تقود روسيا مفاوضات غير مباشرة للحدّ من التوتر بين "محور المقاومة" وإسرائيل؟ فلننتظر ماذا سيخرج من كواليس الإجتماعات والاتصالات الآتية.