على الرغم من وُصول لبنان إلى مرحلة الإنهيار الشامل التي حذّر منها الكثيرون منذ سنوات، وعلى الرغم من سُقوط أغلبيّة الشعب اللبناني تحت وطأة الفقر والعوز، لم يحصل الإنفجار الشعبي الكبير–أقلّه حتى اليوم! فما هي الأسباب؟.
لا شكّ أنّ ما يحصل في لبنان كفيل بتفجير ثورات شعبيّة مُتلاحقة، وليس ثورة واحدة، بسبب توالي المشاكل، لبلّ المصائب القاسية والمُتلاحقة والمُتداخلة! وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: الدَورة الإقتصاديّة مُتوقّفة، ونسبة البطالة التي كانت مُرتفعة جدًا أصلاً، تتفاقم بسرعة، وفرص العمل الجديدة مَعدومة، والكثير من القطاعات تنضمّ تدريجًا إلى القطاعات المُتعثّرة، وتقوم بصرف مُوظّفيها.
ثانيًا: الغلاء الفاحش والمُتفلّت من أيّ ضوابط جعل الحُصول على أبسط السلع والخدمات صعبًا بسبب إنعدام القُدرة الشرائيّة للرواتب، وبفعل غياب الضمير لدى العديد من التُجّار.ويمكن القول إنّ اللبنانيّين الذين لا يتقاضون رواتبهم بالدولار الأميركي، أو لا يحصلون على مُساعدات بالدولار من الخارج، سقطوا كلّهم تحت ثقل الأزمة المَعيشيّة والحيَاتية، ووصَلت الشرائح المُتواضعة الدخل من بينهم إلى حال الفقر الشديد، وحتى إلى العوز والجُوع!.
ثالثًا: تبخّر قيمة ودائع المُواطنين المَحفوظة بالليرة اللبنانيّة، بسبب التضخّم الهائل والسريع الذي حصل، وإستمرار حجز أموال المُودعين المَحفوظة بالدولار الأميركي لدى المصارف، مع السماح بسحب الفتات منها بالعملة الوطنيّة بعد إقتطاع نحو 75 % من قيمتها الفعليّة، بحسب سعر الصرف الحالي!.
رابعًا: هروب حكومة تصريف الأعمال من القيام بأدنى واجباتها تجاه شعبها، وإستمرار تخبّط القوى السياسيّة المُختلفة بصراعاتها السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة وبحساباتها الحزبيّة والإنتخابيّة المُختلفة، الأمر الذي عمّق الأزمات، وضاعف الأجواء السَوداويّة المُخيّمة.
خامسًا: الفشل في مُواجهة وباء "كوفيد 19"، حيث لا يزال مُتفشّيًا في المُجتمع اللبناني، مع كل إنعكاساته السلبيّة على الإقتصاد والأعمال، علمًا أنّ لبنان هو في أدنى المراتب العالميّة بالنسبة إلى سرعة تلقيح شعبه، حيث أنّ النسبة المئويّة التي حازت على اللقاح حتى تاريخه تبلغ أقلّ من 2% من إجمالي سُكانلبنان، وهذه نسبة عديمة الفائدة على مُستوى الحصانة المُجتمعيّة المَطلوبة.
وعلى الرغم من كلّ ما سبق، وبإستثناء نوبات الغضب المُتقطّعة بين الحين والآخر، لجهة قطع طريق هنا وتنظيم تظاهرة هناك والقيام بوقفة إحتجاجيّة هنالك، يُمكن القول إنّ أغلبيّة الشعب اللبناني تلتزم منازلها، بحيث أنّ الإنفجار الكبير الذي كان مُنتظرًا لم يحصل، لا بسبب الأزمة الإقتصاديّة والماليّة، ولا بسبب إرتفاع سعر صرف الدولار القياسي مع ما يرافقه من تفلّت مُخيف للأسعار، ولا بسبب الأداء الفاشل والمُنفصل عن الواقع للطبقة السياسيّة، إلخ. ويمكن إختصار الأسباب بالتالي:
أوّلاً: شُعور أغلبيّة كبيرة من الشعب اللبناني باليأس الشديد من الأوضاع الراهنة، وغياب الأمل لديهم بإمكان حُصول أي تغيير أو مُحاسبة، بسبب التركيبة الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة القائمة في لبنان، وإقتناع قسم من الرأي العام أنّ مُشكلة لبنان سياسيّة قبل أن تكون إقتصاديّة–ماليّة، في مُقابل رفض آخرين لهذه المَقولة.
ثانيًا: غرق الفئات التي تحرّكت في الشارع منذ 17 تشرين الأوّل 2019 حتى تاريخه، في إنقساماتها، وفشلها في توليد قيادة مُوحّدة، تقود أي ثورة مُحتملة، ناهيك عن دُخول العديد من القوى الحزبيّة والسياسيّة على الخطّ لإستغلال التحرّكات ولتوجيهها لغايات غير معيشيّة، الأمر الذي أبعد الكثير من الناس عن الشارع.
ثالثًا: بقاء شرائح واسعة من الشعب اللبناني أسرى تقوقعاتها الطائفيّة والمذهبيّة والسياسيّة، وحتى أسرى إنتماءاتها الحزبيّة الضيّقة، ومُحاولتها إستثناء "زعيمها" عن الآخرين، الأمر الذي أفقد أيّ تحرّكات إحتجاجيّة معناها، وجعلها تتضمّن الكثير من الشعارات السياسيّة والحزبيّة التي لا تلقى إجماعًا حولها.
رابعًا: عدم قُدرة شرائح واسعة من الشعب اللبناني على التواجد في الشوارع لفترات طويلة، بسبب حاجة الناس الماسة إلى العمل وكسب الأموال، مهما كانت هذه الأموال مُتواضعة وفاقدة للقيمة الشرائيّة، وبسبب خوفهم من إجراءات عقابيّة بحقّهم.
خامسًا: إستخدام السُلطة وسائل مُختلفة لإفشال التحرّكات الشعبيّة، لجهة مُواجهتها بالقُوّة حينًا، والتهجّم إعلاميًا عليها حينًا آخر، والعمل على تقسيمها في أغلب الأحيان، إضافة إلى إختراقها بخلايا إستخباريّة لحرفها عن أهدافها النبيلة التي يُفترض أن تتركّز بشأن مطلب العيش الكريم واللائق.
في الخُلاصة، لا شكّ أنّ إستمرار الوضع المأساوي الحالي يُنذر بحصول مشاكل كُبرى على الأرض، وبحُصول الكثير من أعمال الشغب، مع خطر تفلّت الأمور في بعض المناطق، لكنّ الإنفجار الشعبي الكبير لن يحصل، واللبناني أقرب إلى أن يغرقبأحلام يقظة تقوده إلى هجرة غير مُتوفّرة إلى أيّ دولة في العالم، من أن يثور في الشارع تحت مطلب واحد ومُوحّد يقضي بمُحاسبة الجميع، كلّ بحجم ما إرتكبه!.