في أربع وعشرين ساعة، انقلبت الصورة الحكوميّة رأسًا على عقب، من "سلبيّة مُطلَقة" إلى "إيجابيّة حَذِرة"، وبينهما "واقعيّة" لا تسمح بأيّ شكلٍ من أشكال "الإفراط في التفاؤل"، على وقع "الانهيار الدراماتيكيّ" الذي تشهده البلاد على كلّ المستويات.
ليل الأربعاء، شعر اللبنانيون أنّ الأمور "فلتت"، بين كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي خيّر رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، بين "التأليف والاعتذار"، وردّ الأخير "الناريّ" عليه، وصولاً إلى إطلاق معادلة "الاستقالة مقابل الاعتذار".
كان صباح الخميس كفيلاً بـ"محو" آثار العاصفة الليليّة، فحدّد رئيس الجمهورية موعدًا للحريري لزيارته، ليخرج الأخير بعد اللقاء، مُعلنًا عن اجتماعٍ آخر يوم الإثنين، ومتحدّثًا بنبرةٍ "هادئة" لا تعكس "حماوة" اشتباك الليل بالمُطلَق، ولا تقترب منها.
قد لا يكون مثل هذا "الانقلاب" بجديدٍ على اللبنانيين، فقد "خبروا" جولاتٍ بالجملة منه، على امتداد 16 لقاء بين عون والحريري، كان يطلق الأخير بعدها أجواء "إيجابيّة وواعدة"، سرعان ما يتبيّن أنّها "مزيّفة" ولا تمتّ إلى الواقع بصلة.
لكن، هل يتكرّر السيناريو نفسه، خصوصًا أنّ "مقوّمات" الاتفاق لا تبدو واردة، في ظلّ "يقين" كثيرين بأنّ لا حكومة برئاسة الحريري يمكن أن تُشكَّل في ظلّ "العهد" الحالي، أم أنّ "الإيجابية حقيقيّة" هذه المرّة، ولو أنّ ذلك يكاد يكون أشبه بـ"معجزة"؟.
ضغوط بالجملة
صحيح أنّ تحديد موعد الإثنين، بعد اجتماع الخميس، للقاءٍ جديد بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلَّف، دفع كثيرين للاستهزاء والتهكّم، باعتبار أنّ المعنيّين بالتأليف يعتمدون على ما يبدو مقولة "إذا مش الإثنين الخميس"، وأنّهم ربما يعتقدون أنّ "المعجزة" ستأتي من حيث لا يدرون، على طريقة "جائزة اللوتو" الكبرى.
لكنّ الصحيح أيضًا أنّ هذه الأجواء المغلَّفة بالإيجابية، حقيقيّة كانت أم مزيَّفة، لم تكن واردة قبل ساعات قليلة من الاجتماع السابع عشر في قصر بعبدا، بل رُصِد عكسها خلف سطور بيان عون، الذي بدا لكثيرين محاولة لرمي الكرة في ملعب الحريري، الذي لم يتأخّر في الردّ بعنف، وصولاً لحدّ الغمز من قناة عدم اتساع جدول أعمال الرئيس لعقد لقاءٍ معه.
يقول العارفون إنّ هذه "المفارقة" تكفي للدلالة على سلسلة من "الضغوط" التي لعبت دورها في التأسيس للقاء، والأهم لنتائجه القائمة على ترسيخ "تهدئة" قد تكون شكليّة إلى حدّ بعيد، وذلك لأنّ الوضع لم يعد يحتمل "ترف الانتظار"، والأهمّ أنّ "الصمت" قد يكون أفضل من الدخول في سجالات جديدة لا طائل منها، سوى "تعقيد" الأزمة أكثر.
ولعلّ الوضع الاقتصادي والمالي لعب دوره "الضاغط" أيضًا على هذا الصعيد، في ظلّ "التحليق الجنونيّ" لسعر الدولار، والذي يعتقد كثيرون أنّه بات يُستخَدم للاستثمار، وربما "الابتزاز" السياسيّ، إلا أنّ انعكاساته تبدو "كارثية" على المواطنين، الذين بات أمنهم الغذائيّ مهدَّدًا، إلى جانب الاستشفائيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، والأخلاقيّ بطبيعة الحال.
وقد لا يكون "الزخم" الدوليّ، وإن شهد بعض "الانكفاء"، بعيدًا عن تكريس هذه الأجواء، من باب "الضرورة"، وفق ما يقول بعض العارفين، سواء على خطّ "نواة" الوساطة الروسية التي ظهرت هذا الأسبوع، أو "المبادرة الفرنسية"، علمًا أنّ ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لجهة التلويح بـ"تغيير النهج والمقاربة"، يستوجب التوقف عنده مليًا بالحدّ الأدنى.
"السلبية" تطغى؟
وإذا كانت كلّ الضغوط السالفة الذكر أسهمت في تكريس "تهدئة" برزت بوادرها في أعقاب الاجتماع السابع عشر بين عون والحريري، فإنّ الخشية، كلّ الخشية، أن "تفرط" هذه الإيجابية، قبل أو بعد يوم الإثنين، إذا ما ظهر أنّها "وهميّة ومزيّفة" كما درجت العادة، خصوصًا أنّ انعكاسات ذلك قد تكون "مأسويّة" إلى حدّ بعيد.
ومع أنّ البعض يفضّل انتظار يوم الإثنين، ليُبنى على الاجتماع "الموعود" بين الرجلين مقتضاه، وفق قاعدة "لكلّ حادث حديث"، وسط اعتقاد بأنّ "الهدنة" قد تُمدَّد إلى ما بعد الإثنين، إذا ما تبيّن أنّها يمكن أن تؤدي إلى "تبريد" الشارع "الملتهب"، يرى آخرون أنّ الأجواء "السلبيّة" لا تزال تطغى على كلّ ما عداها، بغياب أيّ مقوّمات لاتفاق "بعيد المدى".
ويشير المتابعون، في هذا السياق، إلى أنّه وخلافًا للأجواء التي تعمّد البعض ترويجها، فإنّ لقاء بعبدا لم يخلُص إلى أيّ "تغيير نوعي" في المقاربة، أو حتى إلى أيّ "مرونة" يُبنى عليها، بعيدًا عن الشعارات والأقوال، خصوصًا أنّ التسريبات أكدت أن رئيس الحكومة المكلَّف تمسّك بتشكيلته المقترحة، فيما بقي رئيس الجمهورية متمسّكًا بحكمه الرافض لها بالمُطلَق.
ولعلّ كلمة الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله جاءت لتؤكد طغيان الأجواء السلبيّة، لا العكس، وذلك من خلال "النصائح" التي اختار الرجل توجيهها لرئيس الحكومة المكلف في ذروة "التفاؤل الحَذِر"، والتي كان يمكنه "تأجيلها"، لو اعتقد أنّ موجة "الإيجابية" يمكن أن تقود إلى تأليف حكومة تلبّي تطلّعات اللبنانيين وطموحاتهم.
ويرى العارفون في هذا السياق أنّ دعوة نصر الله للحريري للعودة إلى خيار حكومة السياسيّين، وتحذيره من أنّ حكومة الاختصاصيّين، إن شُكّلت، لن تصمد أكثر من أسبوعين، قد لا تعكس "الإيجابية" المتوخّاة، مثلها مثل طرح "تفعيل" حكومة تصريف الأعمال، الذي إن دلّ على شيء، فعلى أنّ أزمة التأليف ستكون "مفتوحة إلى ما شاء الله".
وأبعد من كلام نصر الله ومعانيه، ولو أنّ الرجل أكد "التزامه" بالتشكيلة التي يتّفق عليها عون والحريري، توقف كثيرون عند "تهليل" رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل بمضمونه، ليخلُصوا إلى أنّ الأجواء الحكومية لا تزال تراوح مكانها، بدليل شعور رئيس "التيار" بـ"الغبطة" بكلام نصر الله، بعدما كان يبدي "امتعاضه" من مساندته لـ"الشيخ سعد".
لا رهان على "صبر نفد"!
في عالم السياسة، تبقى المفاجآت واردة في أيّ لحظة، ولو اتخذت شكل "المعجزات"، كما يوحي واقع العلاقة بين عون والحريري، والتي يقول عارفون إنّها "مفتوحة" على كلّ أشكال "السلبيّة"، ولو اختارا "الهدنة" من باب "تخفيف التوتر".
وفي السياسة اللبنانية بالتحديد، قد تكون "المفاجآت" أكثر من محبَّذة، خصوصًا في ظلّ الواقع الحاليّ، لأنّ البلاد لم تعد تحتمل، ولم يعد الناس قادرين على "الصبر"، وفق دعوات المسؤولين، الذين لا يجدون حَرَجًا في لوم "قطّاع الطرُق" على كلّ الأزمات.
فإذا كان "قطع الطريق" بالفعل عمليّة "مشبوهة"، لما تنطوي عليه من "إذلال" للناس، سواء وُجِد "طابور خامس" يستغلّها لمصلحته أم لا، فإنّ المطلوب من السياسيّين "قطع الطريق" على "قُطّاع الطرق" بدل لومهم، وتحميلهم مسؤولية كلّ الأزمات، وأولها "تجويع" الناس.
لذلك، قد يكون المطلوب من السياسيّين الكثير، بدل الرهان على "صبر نفد"، ويقضي أولاً بالتنازل والتواضع، وقبل ذلك التخلّي عن "الأنانيّات"، لصالح "مساكنة" لا بدّ منها، ولو "بالإكراه"، بما يصبّ في المصلحة العامة بالدرجة الأولى.
يكفي ما شهده اللبنانيون هذا الأسبوع من "مآسٍ"، ليفرض على السياسيّين تحويل "المعجزة" المطلوبة حكوميًا، إلى "أمر واقع" في اجتماع الإثنين، فهل يتحقّق ذلك، أم نكون مع جولة جديدة من "الكباش" الذي لن ينتهي فصولاً؟!.