لم تجرِ مراسم الاحتفال السنوي بذكرى المعلم كمال جنبلاط هذا العام، بسبب إجراءات منع انتشار الكورونا. حسنا فعل نجل الراحل وليد بإلغاء الإحتفال الثقيل على روح المرحوم الذي لم يبقَ من ذكراه سوى وردة على قبر.
وقد لفتني تعليق السيد تيمور جنبلاط في الذكرى قائلا: "يوماً بعد يوم تزداد القناعة في كم كان مُصيباً كمال جنبلاط بكل ما حذّر منه وما دعا إليه وعمل لأجله" وأن المعلم "باق في الرؤية والنهج".
هل حقا تعلم ما هي رؤية المعلم ونهجه؟ لو كان حيا هل كان ليرضى بتموضع الحزب الإشتراكي بحضن الرأسمالية المتوحشة، والعرب المتخاذلين؟ لا عليك سيد تيمور سآخذك برحلة مختصرة الى نهج المعلم ورؤيته للبنان والمنطقة.
كان المعلم كمال جنبلاط اباً حقيقياً للحركة الوطنية اللبنانية استحق القيادة بجدارة ولم يرثها. عاش حياة بسيطة ملؤها الزهد، رفض مظاهر الثروة المبالغ بها واعتبر أن كل ما يزيد عن حاجات الإنسان الطبيعية يجب التخلص منه. وطبق ذلك فعليا عندما وزع الأراضي (100 هكتار) التي يملكها في سبلين على الفلاحين . قال: يا ليتني حقا غنيا كما يقولون حتى أعطي أغنياء العالم أمثولة عن كيفية الإقتسام. كانت أفكاره في الإصلاح الثوري تنافس افكار الثورة البروليتارية الروسية في حزمها وشدتها.
وقال حرفياً "انا لست من الغنى بقدر ما يقال، وإن كنت احب ان اكون كذلك لأمضي في الإقتسام قدماً، معطياً أغنياء هذا العالم أمثولة، إن كل ما يتجاوز النفقات الضرورية يجب أن يذهب إلى الآخرين. أنا لا أؤمن بهذا المجتمع العبثي البشع، مجتمع الإستهلاك. لا بد أن ينجز في لبنان إصلاح عقاري بحيث تزول الملكية الكبرى ويتمكن كل لبناني من إمتلاك قطعة أرض صغيرة". أترى؟ كان يدعو الى تأميم الأراضي وتوزيعها على الفقراء. وأكثر من ذلك دعا الى وضع اليد على طوابق البنايات وتمليكها لغير المالكين!. هل سمعت يوماً بهذا المعلم سيد تيمور؟.
كانت المشكلة الجوهرية بنظره هي نزاع اجتماعي بين اللبنانيين من اصحاب الإمتيازات وبين الذين لا يملكونها شأن البيض والسود في جنوب افريقيا. شبّه النظام اللبناني بنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. أصحاب الإمتيازات يا سيد تيمور والذي يعتبر والدك أبرزهم في وقتنا الحالي.
هذا هو المعلم المصلح الإشتراكي الحقيقي. أما عن رؤياه السياسية لما يجري في العالم فقد اشتهر بين العرب بجرأته الفائقة في مجالس الزعماء العرب، فقد كان الراحل حافظ الأسد يحترمه ويقدره وفي احدى المرات اجتمع به لـ8 ساعات متتالية. فلم يكن المعلم كمال من النوع الذي ترسل اليه رستم غزالة أو غازي كنعان ليبلغه التعليمات. نعم حاول اقناع الأسد بالسماح له بحسم المعركة مع ما كان يسمى بالإنعزاليين يومها، ورفض الأسد وقال له لن أسمح بأن ينظر المسيحيون الى الغرب مجدداً، هم جزء أصلي من هذه المنطقة ويجب استيعابهم. وعبثاً حاول المعلم اقناع الأسد بوجهة نظره التي تقول بالحسم العسكري وبأن هولاء إن تركوا يسيطرون على المناطق المسيحية سيتحالفون مع اسرائيل وينقلبون على سوريا. وعندما تسمع والدك يقول عبارة "السوريون قالوا لي والدك كان على حق" فهو يقصد هذه الواقعة. وعادة ما يذكرها البيك وليد عندما تكون ساعة تخليه في وضع تحالف مع سوريا. أما عندما يتخلى عن تخليه الأول ويرتمي في الحضن العربي الرجعي فهو يذكّر برفض المعلم للعيش في السجن السوري الكبير. نعم كان لا يمانع من الوحدة مع سوريا في حال التزمت بالديمقراطية الحقيقية لا الشعارات الفارغة.
بل أنه كان يدرك أن وجود لبنان هو طفرة سياسية مخالفة للطبيعة فيقول:
"الحقيقة أن لبنان الكبير أنشئ لأجل الموارنة... الفرنسيون لم يكتموا ذلك والموارنة كانوا يصيحون على السطوح: لو لم نكن هنا، لما كان هناك لبنان مستقل عن سوريا".
"الواقع هو ان لبنان يشكل تاريخياً جزءاً من اطار سوري ما. هو سوريا الطبيعية... فحتى والد الشيخ بيار الجميل كان يكتب على بطاقته الشخصية: بكفيا- سوريا. وكانت الرسائل المرسلة الينا تعنون: مختارة-سوريا. فإذن إن هذا التعصب الطائفي كان سماً نفثه الموارنة في جسد لبنان الكبير".
"القومية السورية العربية هي القومية الوحيدة القابلة للحياة في هذه المنطقة فقد جرى إصطناع قومية لبنانية وأخرى فلسطينية وثالثة سورية، إلا ان ذلك كله كان معادياً للقومية ويسير عكس وجهة فلسفة التاريخ السياسية. ليس بالإمكان كتابة تاريخ لبنان، بل تاريخ سوريا الذي يشتمل على تاريخ صغير هو تاريخ لبنان".
تنبأ بحتمية انهيار الدولة اللبنانية: "البنى الدستورية اللبنانية من التناقض مع مبدأ دولة المساواة والديمقراطية. بحيث انه كان لا بد للنظام الطائفي ان يتصدع ذات يوم جاراً البلاد كلها الى الإنفجار. كان انهاض لبنان في دولة صغيرة امرا اقرب ان يكون ضد الطبيعة".
كان استراتيجي التفكير ثاقب البصيرة، تنبأ بسقوط الإتحاد السوفياتي وهو في أوج قوته:
"إن الشيوعية الماركسية بصدد التغير تغيراً بطيئاً لكنه ثابت وأكيد. والطفرة الفجائية النهائية قريبة. وسينتهي الأمر بالحرية الى الغلبة، تحملها أيدي الشريحة الجديدة الواسعة من انتلجنسياالعلماء والفنانين والمثقفين على مختلف الأصعدة ، ثم يتبعها المواطنون انفسهم".
أما القادة العرب -بإستثناء الأسد- فقد كان يستصغر شأنهم ويحتقر انشغالهم بملذات الدنيا وقصر نظرهم.
وأخيراً هل تعلم ما كان موقفه الثابت من اميركا والتي يعمل حزبكم تحت ادارتها المباشرة والتي اعترف والدك البيك بمقابلة تلفزيونية أن الأميركيين هم من دفعوه لإفتعال فتنة 7 ايار؟ أشك بذلك. لذا اليك ما كتبه عن السياسة الأميركية في مقالة له في جريدة المحرر بتاريخ 29/8/1968، أعطاها العنوان المعبّر: "السرطان الأميركي" ما يلي: "يأتي تمزيق هذا الحجاب من التمويه العالمي الشامل المتستر وراء مبادئ الأمم المتحدة، بعد التدخل الأميركي في شؤون بلاد عديدة من العالم، نذكر منها الضغط لمنع تنفيذ قرار الأمم المتحدة بشأن إعادة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم ومساكنهم في فلسطين المحتلة، والسكوت عن العدوان الإسرائيلي المتواصل على الأراضي العربية. إن كل شهيد مصري أو لبناني أو سوري أو من سواها من الدول العربية يسقط على حدود المجابهة مع إسرائيل، إنما يستشهد لأن الولايات المتحدة تواصل مدّ اسرائيل بالمدافع والدبابات والطائرات، وتسمح لمواطنيها من فنيين وطيارين بالانخراط في جيش إسرائيل لمحاربة العرب فوق أرضهم وفي عقر دارهم".
في النهاية، ليس عيباً أن يغيّر الإنسان آراءه ويستفيد من تجارب الآخرين. والا لبقي الكفّار على كفرهم. والمتخلّفون على تخلّفهم. ولكن ما هو عيب أن تقولوا ما لا تفعلون. وهو النفاق بعينه.
* كل الإقتباسات الواردة المنسوبة الى الراحل كمال جنبلاط موجودة في كتابه "هذه وصيتي".