ليست المرّة الأولى التي يحطّ فيها رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب السابق وليد جنبلاط في قصر بعبدا، ويلتقي رئيس الجمهورية ميشال عون، في ذروة "تفاقم الخلاف" بين الجانبيْن، ومن دون سابق إنذار أو تمهيد، للأنصار ولكن أيضًا للحلفاء.
سبق أن فعلها "البيك" في محطّات عديدة وغير بعيدة زمنيًّا، ففاجأ الأقربين والأبعدين، كما حصل مثلاً بعيد حادثة قبرشمون الشهيرة بين "الاشتراكي" و"التيار الوطني الحر"، وكذلك قبيل حوار بعبدا، يوم ارتأى جنبلاط "تلبية الدعوة" بعنوان "تنظيف الخلاف".
رغم ذلك، فإنّ زيارة جنبلاط إلى بعبدا، هذه المرّة، تكتسب أبعادًا مختلفة، خصوصًا أنّ الرجل كان يجاهر قبل أيام قليلة بـ"عبثيّة الرئيس"، شأنه شأن "الصهر غير الكريم"، بل يذهب لحدّ إعلان "نهاية العهد"، من دون أسف على "شبابه"، إن جاز التعبير.
وإذا كان لدى "البيك" تبريراته للزيارة، بما "ينسجم" مع دعوته "المستجدّة" إلى "التسوية"، فإنّ هناك من يرى في المقابل، بمجرّد "عبوره" قصر بعبدا، بعد تصعيده غير المسبوق في وجه "العهد"، نقطة تُسجَّل في رصيد الأخير عن جدارة.
أما "المتضرّر الأكبر" من "الاستدارة الجنبلاطيّة"، فلا يبدو سوى رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، الذي لا يخفي المقرّبون منه "استياءه" من موقف "البيك" الذي بدا، مرّة أخرى، بمثابة "طعنة في الظهر"، بمُعزَلٍ عن كلّ الخلفيّات والدوافع، مشروعة كانت أم لا!.
بين ليلة وضحاها؟
لم تحدث "الاستدارة الجنبلاطية" بين ليلةٍ وضُحاها، وإن كرّست مرّة أخرى، قدرة "البيك" الخارقة على "نقل البندقيّة من كتف إلى كتف"، كما يُقال، بمعنى انتقاله من ضفّةٍ سياسيّة إلى أخرى، في غضون أيام، بل ربما ساعات وفق ما يؤكّد البعض.
يقول العارفون إنّ هذه "الاستدارة" التي تُوّجت بزيارة وليد جنبلاط إلى قصر بعبدا، هي وليدة "تراكمات" احتضنتها الساحة السياسية خلال الأيام الماضية، ومهّدت للقاء، الذي لم يَرتَقِ أصلاً لمستوى "المصالحة" أو حتى "المصارحة"، بل يكاد يقتصر على "كسر الجليد"، بعدما تخطّت العلاقة بين الجانبين في المرحلة الأخيرة الضوابط المرسومة لها إلى حدّ بعيد.
من هذه "التراكمات" التي يبني عليها "العونيّون" بصورة خاصة، إعلان جنبلاط قبل أيام "انفتاحه" على طرح توسيع الحكومة، وعدم تمسّكه بصيغة 18 وزيرًا، التي قيل إنّ رئيس الحكومة المكلّف مصرّ عليها (وهذا ما بدا واضحًا بعد زيارته الـ18 الى قصر بعبدا)، "منعًا لإحراج" جنبلاط تحديدًا، وحتى لا يأتي من "يتقاسم" معه الحصّة الدرزية، في إشارة إلى "غريم" جنبلاط التقليديّ، رئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" الوزير السابق طلال أرسلان.
وعطفًا على هذا الموقف، كان اللقاء الذي جمع جنبلاط وأرسلان، وإن حاول المعنيّون التقليل من وقعه، عبر "النأي به" عن التجاذبات الحكوميّة، والإشارة إلى أنّ "أجندته" اقتصرت على ضرورات "ترتيب البيت الدرزي"، من دون أيّ زيادةٍ أو نقصان، علمًا أنّه استُتبِع بلقاءٍ بين جنبلاط والحريري، قيل إنّه توخّى "توضيح المواقف" منعًا لأيّ "التباس"، ولو أنّ أيّ موقفٍ رسميّ وعمليّ لم يُرصَد في أعقابه.
ولكن، أبعد من كلّ هذه العوامل، وعلى أهميتها، ثمّة من يفسّر "الاستدارة" بالموقف المُسرَّب لجنبلاط أخيرًا، وما انطوى عليه من انتقاداتٍ واضحة وصريحة لبعض دول الخليج، وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية، من بوابة الاعتراض على "الرهان المضخَّم" على رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، وهي انتقاداتٌ طُويت ظاهريًا مع "اعتذار" جنبلاط، لكنّ مغازيها السياسية لم تُمحَ على ما يبدو، وقد تجلّت بوضوح في "الاستدارة" المُستجِدّة.
"الخاسر الأكبر"
أبعد من كلّ التفسيرات والتبريرات لـ"استدارة" جنبلاط، والتي يرى البعض أنّها لا بدّ أن تكون أمرًا مألوفًا، لكلّ من يعرف أدبيّات جنبلاط، ثمّة من يسأل عن "المفاعيل السياسيّة" المرتقَبة لها، علًما أنّ معظم التحليلات والاستنتاجات، خَلُصَت إلى أنّها شكّلت "ضربة" لرئيس الحكومة المكلَّف الذي فقد "داعمة قوية" كان يستند إليها.
ينفي "المستقبليّون" و"الاشتراكيّون" مثل هذه القراءة، ولو أنّ كلاً منهم ينطلق من اعتبارات وحسابات مختلفة رأسًا على عقب. فبالنسبة إلى "الاشتراكي"، لم يكن جنبلاط ليفعل ما فعله، ويدعو إلى "التسوية"، لو لم يشعر أنّ هناك أسبابًا "موجبة" للتواضع، والتخلّي عن كلّ الشروط المُسبَقة، نتيجة الوضع "الكارثي" الذي تشهده البلاد، والذي يتطلّب من الجميع مقاربة من نوع آخر، بعنوان التلاقي، وبالتالي تجاوز كلّ الخلافات، مهما كبُرَت أو صغُرت.
أما "المستقبليّون"، فينطلقون من "تفهّمهم" لحيثيّات جنبلاط واعتباراته، خصوصًا لجهة "توجّسه" الدائم من آفاق التصعيد، وانعكاساته على الساحة الداخلية ولا سيما الدرزيّة، إلا أنّهم يشدّدون على أنّ "التنازل" ليس الحلّ، خصوصًا أنّ التجربة أثبتت "عقم" مثل هذا الخيار، بعدما ثبُت أنّ المطلوب اليوم مقاربة مختلفة، تفضي إلى تشكيل حكومة "إنقاذ" مكتملة الصلاحيات، بعيدًا عن نهج "المحاصصة" المُعتاد، الذي "ينبذه" المجتمع الدولي أصلاً.
لكن، بين هؤلاء وأولئك، ثمّة من يجزم أنّ الحريري هو "الخاسر الأكبر" من "استدارة" جنبلاط، التي تزامنت مع خطابٍ للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، شكّل هو الآخر، "تحوّلاً" في المقاربة، وبالتالي في "تشخيص" العلاقة معه، بحيث بدا أنّ "الشيخ سعد" أصبح "مُحاصَرًا" من كلّ حدب وصوب، ما قد لا يتيح له "التصلّب" في مواقفه، فيما الجميع من حوله يدعون إلى "تسوية" باتت "إلزاميّة"، ولم تعد "اختياريّة" الطابع.
إلى أين؟
قبل أسابيع، لم يجِد جنبلاط "حَرَجًا" في التصويب بعنف على "العهد" ممثَّلًا برئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، مُطلِقًا عليهما أشدّ النعوت وأقساها، من دون أيّ حفظٍ لخطّ الرجعة، أو ما يصطلح على تسميته بـ"شعرة معاوية".
يومها، "أبدع" مناصرو "البيك" وهم يشرحون خلفيّات تصعيده ودوافعه المبرَّرة، وأوّلها أن لا ضرورة لـ"خط رجعة" مع "عهد" انتهى عمليًا، ولم يعد له وجود، ولا داعي للتعامل معه تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، مع تشبيهه بـ"عهد" الرئيس الأسبق إميل لحود، في قسمه الأخير.
اليوم، يعيد جنبلاط "تموْضعه" من جديد، راسمًا معالم "تسوية" يقول إنّه "لا بدّ منها"، بعدما ثبُت أنّ التصلّب لا يُجدي، فيما البلاد أضحت في قلب "جهنّم"، والعباد لم يعودوا قادرين على تحمّل المزيد، بعدما استُنفِدت طاقتهم حتى الرمق الأخير.
قد يكون "البيك" محقًّا في الخلاصة التي وصل إليها، وما استتبعته من استنتاجات، إلا أنّ السؤال المحوريّ الذي لا يزال يحوم حول "حراكه الديناميكيّ" أبدًا في السياسة، يبقى، إلى أين؟ بل ربّما، إلى متى تستمرّ حالة "الدوران" بلا أيّ أفق؟!.