كان رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري من أشد المدافعين عن مشروع التسوية التي حاكها مع رئيس التيار "الوطني الحر" النائب جبران باسيل، وعُرفت بالتسوية الرئاسية التي أدّت لإنتخاب رئيس للجمهورية هو العماد ميشال عون عام2016: قبل أسابيع من الإعلان عن تلك التسوية، كان الحريري يتواجد في باريس وبرفقته إبن عمّته نادر الحريري، وبينما كانا يتمشيان في شارع "شانزليزيه" التقيا بالمعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي علي حسن خليل الذي صُودف وجوده في العاصمة الفرنسية حينها للمشاركة في مؤتمر حول الإمام موسى الصدر إنعقد بدعوة من الأونيسكو. دار نقاش طويل وحاد على رصيف الشارع بشأن إنتخاب عون رئيساً للجمهورية، وبدا الحريريان يدافعان عن مشروع التسوية مع باسيل، "التي ستقود الحريري الى ترؤس حكومات عهدين رئاسيين: اولاً مع عون وثانياً مع باسيل". لم يكن وقتها موقف خليل، بناء على رأي رئيس المجلس النيابي نبيه بري، يتوافق مع توجه الحريري(...) لكن "الشيخ سعد" بدا واثقاً من مشروعه التسووي مع باسيل، فترجما لاحقاً المشهد الأول منه بنجاح، وتم وضع كتاب "الإبراء المستحيل" على رف النسيان، قبل أن تكرّ التباينات الشخصية لا السياسية، التي راكمت أزمة ثقة بين تيارين أزرق وبرتقالي. أثناء المشهد الأول، جرى الإتفاق على مشاريع سياسية وتجارية، من بينها ملف بواخر الكهرباء. بعدها تراكمت الخلافات بين الحليفين، إلى حد القطيعة الشخصية. لم تكن المسألة هي في الخيارات السياسية التي لم تتبدّل عند أحدهما لا خلال التسوية الرئاسية ولا بعدها. جرى فقط تغليف التباعد بعناوين سياسية، قبل الوصول حالياً إلى أزمة تأليف الحكومة.
يقول مناصرو الحريري أن لرئيس تيار "المستقبل" الفضل بوصول عون الى القصر الجمهوري. ويردّ بالمقابل مناصرو رئيس الجمهورية بأن لعون الفضل في عودة الحريري من السعودية بعد إحتجازه هناك. فهل تساوى الإثنان في فعل وردّ الجميل؟ يُفترض أن تكون المساواة تحققت في تصرف الفريقين بحق بعضهما: لا دَيْن لأحد منهما بحق الآخر.
ومن هنا بدأت أزمة الحريري-باسيل من الصفر، ولم تنفع معها كل محاولات سعاة الخير، أو المستفيدين استثمارياً من إعادة لمّ الشمل بين "الأزرق" و"البرتقالي"، لا بل توسّعت أزمة الثقة بين الفريقين، ويدفع اللبنانيون اثمانها الآن.
لم تعد القضية هي أزمة ثقة فحسب، بل تطورت لتصبح أزمة نظام. لذا، فإن المخاطر ستزداد بعد الفشل في آخر الخطوات التي سُجلت في الساعات الماضية بشأن تأليف الحكومة. حاول فريق رئيس الجمهورية رمي كرة المسؤولية في ملعب بيت الوسط، لكن الحريري أعاد الكرة الى بعبدا، في لعبة دستوريّة تتموضع في متن أزمة النظام. من يُبعثر أوراق الدستور؟.
يعتبر كل فريق أنه يمارس حقوقه وواجباته الدستورية في عملية التأليف، ليتحول النقاش في البلد الى وجهات نظر ترفع من حدة التوتر الطائفي في لبنان. سيستفيد الفريقان في توظيف خطوات كل منهما في حسابات طوائفية، لكن سيخسر البلد في إقتصاده، ومعيشة أبنائه. فهل تقتصر الخسائر عند هذا الحد؟ هناك مخاوف جدية من ان تطال المخاطر العوامل الأمنية، بينما يستعد الشارع اللبناني للإشتعال مجدداً في ظلّ معلومات عن تحركات متقابلة في شوارع طوائفية. يبدو الخطر أكبر في تحول اللعبة السياسية من أزمة ثقة الى أزمة نظام. لا حلول بشأنها من دون اثمان باهظة، سبق وكلفت لبنان حرباً طويلة.