فجأة، قرَّر «حزب الله» أن يحسم اللعبة سريعاً. فالأرض تموج تحت قدميه، وسيكون خَطِراً عليه الإنتظار أكثر. وهكذا، نزع «الحزب» قفازاته، وأعلن في شكل صارم: «الأمر لي... تدبَّروا أموركم!».
في تقدير بعض المتابعين، أنّ «حزب الله» سارع إلى «تطويق» الوضع الداخلي، لا من منطلق شعوره بالقوة بل بالقلق. فالقرار الدولي - الإقليمي بإبعاد النفوذ الإيراني عن شاطئ المتوسط وحدود إسرائيل الشمالية بات محسوماً، أياً تكن السيناريوهات المقبلة لملف العلاقات بين واشنطن وطهران. وهذا يعني تراجع نفوذ «الحزب» في سوريا ولبنان معاً.
ويرى هؤلاء، أنّ موسكو هي المعنية بإخراج هذا السيناريو، انطلاقاً من تحالفها مع إيران والدور الذي تضطلع به في حماية النظام ورعاية الحل السوري، وأنّها تحظى بموافقة إسرائيل والقوى الدولية. وقد أبلغت «الحزب» بذلك في محادثات الأسبوع الفائت.
ولذلك، عمد «الحزب» إلى تنفيذ «مناورة بالنار»، ولكن سياسية، لفرض أمرٍ واقع، استباقاً لأي صفقة بين القوى الكبرى. وهو لذلك يستثمر أوراقه القوية، كالسلاح في الداخل والترسانة الصاروخية والإمساك بالقرار الرسمي والدور العسكري في سوريا والعراق واليمن وسواها.
وفقاً لبعض المحلِّلين، نفّذ «الحزب»، في الأيام القليلة الفائتة، عملية 7 أيار سياسية شاملة، قوامُها الآتي:
1- الإبلاغ الى الفرنسيين مباشرة أنّ مبادرتهم القاضية بتشكيل «حكومة مهمَّة» قد ماتت، وأنّ «الحزب» تراجَع صراحةً عن «تفاهُم قصر الصنوبر» في آب 2020، غير عابئ بردود الفعل.
2- الإبلاغ الى الرئيس سعد الحريري أنّه لن يعود إلى السرايا إلاّ إذا عاد إلى الحكومة السياسية التي استقالت بعد أيام من انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.
3- إعطاء الضوء الأخضر للرئيس ميشال عون لكي ينتقل في هجومه على الحريري من السلاح السياسي إلى سلاح الدستور، ويضعه في خانة المُدافع عن نفسه.
4- تذكير المجلس النيابي، برئيسه نبيه بري وأعضائه، بأنّ سحب الثقة من الحريري يجب أن يصبح خياراً قابلاً للنقاش.
5- دفع الرئيس حسّان دياب وحكومة تصريف الأعمال التي يسيطر عليها «الحزب» وحلفاؤه، إلى تولّي إدارة المرحلة حتى إنجاز تسوية جديدة.
6- تشجيع المؤسستين العسكرية والأمنية على ضبط الحراك في الشارع ومنع انفلاته.
7- تحميل حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة المسؤولية عن انهيار سعر صرف الليرة، والدفع في اتجاه مجموعة تدابير مالية - نقدية - اجتماعية تكون بمثابة مُسكِّنات في ظلّ ارتفاع الأسعار وانهيار منظومة الدعم. فانفجار الاحتقان في الشارع سيقود إلى خيارات يصعب التكهّن بها، وستكون مهمَّة إخماده شبه مستحيلة أو باهظة الكلفة.
8- تحميل قوى المعارضة وشرائح الانتفاضة المسؤولية عن احتمال تحوّل الصدام في الشارع حرباً أهلية، وتخوين بعضها باتهامه بالسعي إلى هذه الحرب، مدعوماً من الخارج.
المعنيون في الداخل يتعاطون جميعاً مع طروحات «الحزب» بمنتهى الجديّة أو الالتزام: عون، الحريري، دياب، المجلس النيابي والمؤسسات العسكرية والأمنية والمالية والنقدية. ويراهن «الحزب» على أنّ الحريري والفرنسيين سيجدون مصلحة لهم في العودة إلى ستاتيكو ما قبل 17 تشرين الأول 2019.
«الحزب» يعرف الحريري وله تجربة طويلة معه. والحريري الذي تقدَّم بـ»استقالته» في الرياض، في خريف 2017، في سياق الضغط للدفع نحو نهج أكثر استقلالاً عن نفوذ «حزب الله»، سرعان ما تراجَع وعاد إلى مساره السابق تحت عنوان «الواقعية السياسية». وقد تلقّى في ذلك تشجيع صديقه الفرنسي إيمانويل ماكرون. وعلى الأرجح، يراهن «الحزب» اليوم على أنّ الحريري والفرنسيين سيكونون مجدداً مطواعين لتسويات مماثلة، لأنّ لا خيارات أخرى متاحة أمامهم.
والإشارة الأكثر تعبيراً صدرت عن رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط. فالرجل التقط بـ»أنتيناته» علامات الخطر، ولم يتوانَ لحظة عن التصرُّف، ليحمي رأسه. وعلى طريقة «ألف قَلْبة ولا غَلْبة»، قفز مجدداً من ضفة الخصوم مع «الحزب» والعهد- أو على الأقل من المنطقة الرمادية- إلى حضن الأقوياء. وبالتأكيد، هو استمع أمس إلى تفاصيل أخرى عن وجهة النظر الأميركية من السفيرة دوروثي شيا.
ردّة فعل المختارة أوحت بأنّ «الحزب» لا يمزح. فجنبلاط لا يريد الوقوع مجدداً في مأزق 7 أيار السياسية الجارية، على غرار انجراره إلى 7 أيار الأمنية في العام 2008، عندما كاد يدفع ثمناً باهظاً، هو والجماعة التي يمثِّلها سياسياً وطائفياً وجغرافياً.
يبقى السؤال: هل إنّ مبادرة «الحزب» تعبِّر فعلاً عن فائض قوة أو عن فائض قلقٍ من الآتي؟
المطَّلعون يقولون: التسويات التي يجري التحضير لها لم تتبلور بعد، ولم يظهر فيها الرابح والخاسر. لكن «الحزب» سدّد ضربات وقائية واتخذ تدابير احتياطية استباقاً لما يمكن أن يأتي.
الشرط الذي يمكن أن يحقّق لـ»الحزب» انتصاره في معركته الحالية هو أن يتراجع الفرنسيون عن حكومة المستقلين ويوافقوا على حكومة «تكنوقراط مزيَّفة» كحكومة دياب، أو على تعويم حكومة دياب ذاتها، وأن تسحب إدارة بايدن يدها من الشرق الأوسط في هذه المرحلة، وتقوم بتلزيم لبنان لقوة إقليمية مرّة أخرى. وهذا الخيار جدير بالتفكير.