جاءت زيارة السفير السعودي وليد البخاري لقصر بعبدا مثيرة، إن في توقيتها او حتى في خلفياتها. وكالعادة عمدت الاطراف اللبنانية الغارقة في الازمة الحكومية الى السعي لاستثمار هذه الزيارة إعلامياً لمصلحتها، ما أنتج تسويق كثير من المعلومات التي لم تكن دقيقة.
صحيح انّ زيارة السفير السعودي الى قصر بعبدا تشكل حدثاً نادراً منذ تولي العماد ميشال عون رئاسة الجمهورية، الا أن حصول هذه الزيارة في اليوم التالي لإعلان فشل اللقاء الثامن عشر بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، والذي استتبعه تصريح عنيف للحريري، كلّ ذلك سمح بتوسيع دائرة التكهنات ووضع ما حصل وكأنه في اطار توجيه صفعة سياسية للحريري الذي ما تزال علاقته بالمملكة باردة.
في الواقع هناك تسرّع او ربما سطحية في وضع الامور في اطار النكايات بين السعودية والحريري، وثمة سذاجة في طريقة التسويق الاعلامي الى درجة اضطرت السفير السعودي الى إصدار نفي لكل ما جرى تداوله.
الواقع انّ الزيارة التي جاءت بطلب من رئيس الجمهورية حملت رسائلها في الكلمة المكتوبة التي أذاعها السفير السعودي من على منبر قصر بعبدا. وفي هذه الكلمة ثمة نقاط ثلاث تشرح خلفية زيارته:
النقطة الاولى تتعلق بالتمسك باتفاق الطائف، وفي ذلك رد مبطن على الداعين الى تعديل هذا الاتفاق من خلال الاتعاظ من الازمة الحكومية، وفي طليعتهم رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل ومعه ضمناً رئيس الجمهورية وكذلك الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي تطرّق في كلمته الاخيرة الى الدعوة لحصول هذا التعديل.
اما النقطة الثانية فهي تذكيره بالقرارات الدولية حول لبنان وتحديداً القرارات 1701 و1680 و1559، وقد يكون مضى وقت طويل قبل ان يستذكر احدهم القرار 1559 نظراً لاعتبار انّ صدور القرار 1701 كان الاحدث والذي يتجاوز القرار 1559 وفي ذلك رسالة سعودية واضحة.
اما النقطة الثالثة، والتي بَدا وكأنها جاءت بكاملها من خارج السياق، فهي تتعلق بالملف اليمني والمبادرة السعودية لوقف اطلاق النار، وهنا بيت القصيد. ففي اليمن هنالك حرب تدور رحاها منذ اكثر من 6 سنوات. وخلال المراحل الاخيرة تصاعدت هجمات الحوثيين على اهداف حيوية داخل السعودية من خلال اطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة، والتي جاءت ذروتها مع استهداف منشآت شركة «ارامكو» النفطية العملاقة.
لكن ومنذ نحو العام، سجلت هدنة غير معلنة تتعلق بتجميد الهجمات بين فريقي النزاع اليمني. واستقرت الحرب على مشهد تبادل اطلاق النار من خلال خطوط التماس، والتي بدت انها ستكون خطوط الفصل النهائية. لكن وبشكل مفاجئ، شنّ الحوثيون خلال الاسابيع الماضية هجوماً صاعقاً للاستيلاء على مأرب آخر معاقل الحكومة اليمنية المتحالفة مع السعودية شمال اليمن والغنية بالنفط والغاز. وجاء توقيت هذا الهجوم في وقت قررت الادارة الاميركية برئاسة جو بايدن إنهاء دعمها للتحالف، وكذلك شطب الحوثيين عن لائحة المنظمات الارهابية. والاهم من الكلام الغامض الذي يجري تناقله في الكواليس حول بدء مفاوضات اميركية ـ ايرانية غير مباشرة من خلال سلطنة عمان. في الواقع ومن دون ادنى شك، فإنّ نجاح الحوثيين في السيطرة على مأرب سيعزز موقفهم التفاوضي حيال التسوية اليمنية المنتظرة، وهو في الوقت نفسه سيعزز اكثر موقف ايران التفاوضي مع الولايات المتحدة الاميركية، خصوصاً لجهة رسم خريطة نفوذ ايران في المنطقة. لذلك اقترحت السعودية وقفاً لإطلاق النار في 22 آذار الماضي، ما لبث ان رفضه الحوثيون بعد اقل من ساعة من الاعلان عنه. وأرفقوا القبول به شروطاً عدة. الواضح انّ جواب ايران من خلال الحوثيين هو بعدم ايقاف هجومهم. والمعروف ان «حزب الله» موجود في اليمن وهو يتابع العمليات العسكرية هناك، وبالتالي فإنه من المنطقي ان يكون شارك ولو استشارياً في اعداد التعبئة لمعركة مأرب.
وبذلك ثمة تقاطعات عدة بين معركة مأرب العسكرية وأزمة الحكومة اللبنانية السياسية.
هما أزمتان كبيرتان تهددان في حال تماديهما في تبديل جوهري في خريطة النفوذ داخل البلدين في موازاة المفاوضات التي تعمل واشنطن على التحضير لها، وسترسم خريطة النفوذ في المنطقة لعقود عدة مستقبلاً. وهنالك من يعتقد أن طيف «حزب الله» موجود في مأرب، وان شبحه يرخي بثقله على الازمة الحكومية في لبنان. وبالتالي، قد لا يكون من باب الخطأ الاستنتاج من كلام السفير السعودي وجود استعداد للربط بين مأرب اليمنية والحكومة اللبنانية.
وبعيداً عن «تفاهة» لعبة التساجل الاعلامي، ثمة ما هو اكبرلا بد من النظر اليه. ففي بيروت لا تبدو الازمة الحكومية على طريق الحل. فالمتاريس الداخلية الموضوعة لا تسمح بتدوير الزوايا وانتاج تسويات بإرادة داخلية. ولكن ثمة ما هو أخطر، فرئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب همس في أذن القريبين منه بأنه غير مستعد لعقد جلسة حكومية تحت عنوان تفعيل «تصريف الاعمال». هو يطمح فقط الى الخروج من السرايا للدخول الى نادي رؤساء الحكومة السابقين، هذا اقصى ما بات يريده. وهو يدرك انّ الضغوط المتزايدة عليه ستجعله يدفع أثماناً شعبية وسياسية قاسية هو في غنى عنها. لذلك اعتمد مرونة ظاهرة في الايحاء بأنه على استعداد لعقد جلسة ولكن بعد تفسير حدود تصريف الاعمال ومعناه، ساعياً الى رمي كرة النار في حضن المجلس النيابي، لكنه عملياً «ابتكر» مهلة الاسبوعين تماماً كما فعل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حيال إنشاء المنصة، وهو العارف ان الاحتياط الالزامي أضحى ما دون الـ 16 مليار دولار.
هي أزمة وجودية كما تصفها العواصم الاوروبية على وقع حريق الانهيار وقرب الارتطام ولهيب التعقيدات الاقليمية.