لن يكون ما بعد لقاء الإثنين "الناريّ" ما بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري كما قبله. هي معادلة "يتيمة" أفضى إليها اللقاء، الذي "أفسد" أكثر ممّا "نفع"، بعدما أعاد مساعي تأليف الحكومة إلى المربّع الأول أو ما دونه.
لم ينجح اللقاء في تحقيق أيّ "خرق"، ولم يكن على قدر الآمال والطموحات التي عُلّقت عليه. على العكس من ذلك، كرّس اللقاء "الطلاق" بين عون والحريري، وأدخل البلاد في مرحلةٍ جديدة من الفوضى، لا تخلو من المفاجآت، وربما "النكايات" المتبادَلة.
لكنّ اللقاء مع ذلك، سيترك آثاره على المشهد السياسيّ العام. لعلّ أبرز التجليات ستكمن في علاقات سائر الأفرقاء بعون والحريري، فـ"الفرز" لم يعد واضحًا فحسب بنتيجة اللقاء، بل أصبح "إلزاميًا"، وبالتالي فإنّ خيار "الحياد" الذي كان يتحصّن خلفه البعض لم يعد مُتاحًا.
باختصار، يمكن القول إنّ عنوان المرحلة أضحى "لا مهادنة"، وعلى الجميع التموْضع بما يتناسب مع ذلك، على طريقة "إما أبيض أو أسود"، لكن وفق قاعدة "إما عون أو الحريري"، بعيدًا عن الوقوف في "منطقة الوسط"، ولو أنّها لا تزال "قِبلة" الكثيرين.
ثمّة من يسأل بالتحديد في هذا السياق عن موقف "حزب الله"، الذي تحوّل في مرحلةٍ ما، إلى "وسيط" بين عون والحريري، بحرصه على العلاقة "المتينة" مع الأول، وتمسّكه بالثاني رئيسًا للحكومة "بلا بديل"، فهل لا يزال هذا "المنطق" سائدًا في قاموسه؟ وكيف؟
المحظور وقع
وقع المحظور في لقاء الإثنين إذًا، من دون أن يخرج عمليًا عن سقف التوقّعات، الواقعيّة منها على وجه التحديد. ثمّة من يعتقد أنّ "حزب الله" تحديدًا كان يستعدّ لهذا "السيناريو"، وما خطاب أمينه العام السيد حسن نصر الله، الأسبوع الماضي، في ذروة "التفاؤل" غير المبرَّر، والتوقّعات "المضخَّمة"، سوى الدليل "الساطع".
فيوم أطلّ نصر الله في خطابه الأخير، كان اللبنانيّون يبنون "الآمال"، غير المبرَّرة ربما، ولا المشروعة، على لقاءٍ "واعِدٍ" بين عون والحريري، ويمنّون النفس بـ"حلّ سحريّ" سيهبط، كالوحي، على المسؤولين، على وقع تفاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية، و"جنون" الدولار الآخذ في الارتفاع "الدراماتيكيّ"، فتولَد الحكومة بنتيجته، بسحر ساحر، بعد تقديم "تنازلات" اللحظة الأخيرة، التي تحوّل المستحيل إلى ممكن.
لكنّ الأمين العام لـ"حزب الله" اختار يومها سلوك دربٍ آخر، فتجاهل الأجواء "المبشّرة"، ليوجّه "نصائح" بدت "مشفّرة" إلى رئيس الحكومة المكلّف، أوحى من خلالها بطغيان "السلبيّة"، سواء بدعوته التي اعتُبِرت "انقلابيّة" في مكانٍ ما، إلى التراجع عن طرح حكومة "الاختصاصيّين" لصالح العودة إلى حكومة الاختصاصيّين، أو باقتراحه "تفعيل" حكومة تصريف الأعمال، رغم إدراكه بعدم "حماسة" رئيسها حسان دياب لمثل هذه الخطوة.
أكثر من ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ نصر الله بخطابه هذا، لم "يبدّد" الأجواء الإيجابية فحسب، وإنّما نقل البلاد "سلفًا" إلى مرحلة "ما بعد" لقاء الإثنين، لجهة "الفرز" الذي سيصبح "حتميًّا" ما بين عون والحريري، بعيدًا عن فرضية "الحياد" المُستهلَكة. ولعلّ مسارعة رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل إلى التهليل بخطاب نصر الله، حتى قبل أن يجفّ حبره، فُسّرت في الأوساط السياسيّة، حسمًا لاصطفاف "حزب الله" بجانبه في المعركة المستجدّة.
"الموازنة" الضروريّة
بعد خطاب السيد نصر الله، قيل إنّ "حزب الله" تخلّى عن "حياده" انسجامًا مع مقتضيات المرحلة، التي جاء لقاء بعبدا يوم الإثنين ليكرّسها بوضوح، ويجعل أيّ "تمايز" عنها ضربًا من الخيال. وذهب البعض لحدّ القول إنّ الحزب حسم قراره بالتخلّي عن الحريري نفسه، بعدما أدّى "تكليفه" الغاية المنشودة، وانتفت الأهداف المرجوّة منه، وهو لم يتردّد بعض المقرّبين من "حزب الله" والمحسوبين عليه في الترويج له في الإعلام.
لكنّ "المفاجأة" كانت بتموْضُعٍ مختلف أخذه رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي تخلّى بدوره عن "حياده"، ولكن في "الاتجاه المعاكس". فمع أنّ الأخير كان أقرب إلى الحريري منه إلى عون منذ اليوم الأول للتكليف، وهو صاحب مقولة "مع الحريري ظالِمًا أم مظلومًا"، والذي يشكو أنصاره من "كيمياء مفقودة" بالمُطلَق بينه وبين عون، إلا أنّه "التزم الصمت" طيلة الفترة الماضية، معتمدًا صفة "المتفرّج الوسطيّ"، إن جاز التعبير.
لكنّه، بعد يومين على خطاب نصر الله "الجدليّ"، أخرَج بيانًا أكثر "جَدَليّة" لحركة "أمل"، حمل بين طيّاته الكثير من "التمايز" عن مضمون الخطاب الأول، فكان داعمًا للحريري "على رأس السطح"، ومتمسّكًا بطرح حكومة الاختصاصيّين غير الحزبيّين وفق مقتضيات المبادرة الفرنسيّة، بما يناقض فكرة حكومة "السياسيّين" التي دعا نصر الله إلى بحثها. حُمّل البيان أكثر ممّا يحتمل، ربما، لكن ليس بشكلٍ "مفاجئ" للمعنيّين، أي بري ونصر الله.
ثّمة من يعتبر أنّ "حزب الله" و"أمل" أرادا هذا "الضياع" في مكان ما، فإذا كان "الفرز" الذي استجدّ يمنع "الحياد"، فلا ضيْر من "توزيع الأدوار" بما "يضمن" مراعاة الفريقيْن في آن. بهذه الطريقة، "يساير" نصر الله رئيس الجمهورية، فيكسبه، وفي الوقت نفسه، "يضمن" بري موقف الحريري، خصوصًا بعدما أصبح الأخير بحاجة لأيّ دعم، من أيّ مكان، بعدما انضمّ "صديقه" رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب السابق وليد جنبلاط إلى المنادين بـ"التسوية".
"حزب الله" غير منزعج؟!
هي "الموازنة" بين كلٍ من عون والحريري، يتمسّك بها "الثنائي الشيعي" بطريقة أو بأخرى، لاعتقاده أنّ "التسوية" آتية عاجلاً أم آجلاً، لأنّ "المراوحة" لا يمكن أن تبقى إلى الأبد، ولا بدّ من "تقاربٍ" في وجهات النظر أن يستجدّ، في لحظة "حقيقة" ما.
لكن، هناك من يذهب أبعد من كلّ ذلك، ليغمز من قناة لعب "حزب الله" على الحبلين، لكون "الصراع" بين عون والحريري لا يسبّب له عمليًا أيّ إزعاج، طالما أنه يبقى "مضبوطًا"، وملتزمًا بالأسقف المحدّدة والمرسومة، وأولها "تحييد" الساحة السنية الشيعية عن ترسّباته.
ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ موقف رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، الذي بدا "متمرّدًا" على نصر الله، برفضه دعوة "تفعيل" حكومته، ورمي الكرة في ملعب مجلس النواب، لا "يزعج" الحزب، بل على العكس من ذلك، يريحه، خصوصًا بطلبه "تفسيرًا دستوريًا".
بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ تحوّل الأزمة إلى أزمة نظام وحكم لا يشكّل مشكلة في قاموس "حزب الله"، الذي لا يمانع، بل ربما يحبّذ، وضع النظام ككلّ تحت "المشرحة"، كيف لا وهو صاحب نظرية "المؤتمر التأسيسي"، التي لم يتخلّ عنها إلا تحت ضغط "المزايدين".
ولعلّ الأزمة الحاليّة قد توفّر "الظرف الأمثل" لتحقيق هذا الهدف، هدف يعتقد كثيرون أنّه "مشروع ومبرَّر"، فالنظام أثبت "عقمه"، طالما أنّ خلافًا بين رئيسي الجمهورية والحكومة يستطيع "شلّ" البلد، ما يفرض إعادة النظر به، بكلّ تأنٍّ وعمق...