يبدو أن قوانين مكافحة الفساد في لبنان باتت تشبه إلى حد بعيد الشعارات التي ترفع من قبل القوى السياسية التي تدعو إلى محاربته، نظراً إلى أنها تُقرّ من دون تنفيذ على أرض الواقع، بينما تصور كما لو أنها إنتصارات من العيار الثقيل، الأمر الذي من المفترض أن تطرح حوله علامات الإستفهام، والإرادة الفعلية التي تبدو غائبة.
أول من أمس، انضمّ قانون استرداد الأموال المتأتّية من الفساد إلى مجموعة قوانين مكافحة الفساد التي لا يمكن تنفيذها، لا سيّما أنّ أغلبها مرتبط بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد(1)، التي أقر قانونها منذ نحو عام، إلا أنّها لم تشكل حتى الآن.
في هذا السياق، يوضح النائب السابق غسان مخيبر، الذي يعتبر بمثابة "الأب الروحي" لمعظم قوانين مكافحة الفساد، أن هذا القانون ليس جديداً بقدر ما هو يعطي أدوات تفعل الأدوار الموزعة على القضاء وهيئة التحقيق المصرفية الخاصة وغيرها من السلطات التي لا تنسّق في ما بينها ولا تعمل بشكل منسجم، وبالتالي هو ضروري كجزء من منظومة كاملة لكن لوحده لا يحلّ مشكلة الفساد، بل هو قطعة من قطع "البازل".
ويشير إلى أنّ القطعتين الخاصتين به هما جهاز تنسيق، أيّ أنّه ليس جهازاً تنفيذياً سيستعيد الأموال التي يمكن إستعادتها من خلال الإدارات الموجودة إلا أنّ المعوقات لا تزال قائمة، كالسرّية المصرفيّة وعدم تنسيق الأجهزة القضائية والتحقيقية والرقابيّة بين بعضها البعض، وبالتالي هو أوجد هيئة تنسيقيّة لكنّه يحتاج إلى إستكماله بالسريّة المصرفيّة.
من جهة ثانية، يلفت مخيبر إلى أنّ القانون أوجد صندوقاً رُبط بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد غير الموجودة، لكن هناك أهمية بمكان لهذا الصندوق، لأن الأموال المتأتّية عن فساد ليس هناك جهاز في الدولة لديه صلاحيّات بإدارتها، وهي يجب أن تدخل بصندوق مستقلّ عن صندوق الدولة كي لا تدخل من جديد في دورة الفساد، والدول في الخارج لا تردّ أموالاً إلى الدولة اللبنانيّة لأنها تفترض أنّها ستعود الى دورة الفساد.
وفي حين يرى أن هذا القانون كان من الممكن أن يكون بصورة أفضل في صناعته، يؤكّد أنه في إطاره العام ضروري لكن يجب أن يستكمل بالمنظومة المتكاملة، التي تحدّثت عنها الخطة الوطنية، لكنه يشدد على أن الأهم تغيير المنظومة من خلال إنتخابات تدخل دماً جديداً إلى المجلس النيابي.
المشكلة في مكان آخر
هذا الواقع يقود إلى مكان آخر، نظراً إلى أن قانون استرداد الأموال المتأتية من الفساد ليس الأول من نوعه، حيث هناك مجموعة أقرت على مدى السنوات الماضية لكن بقيت دون تنفيذ، ويمكن إعطاء مثالاً على ذلك هو قانون الحق بالوصول إلى المعلومات، الذي صدر في العام 2017 لكن لم ينفّذ بحجة عدم وجود المراسيم التطبيقيّة، التي أقرّت في نهاية العام الماضي، بالرغم من أن هناك شبه إجماع على أن غيابها ما كان يجب أن يحول دون تطبيقه.
في هذا الإطار، تشير المحامية كريستينا أبي حيدر، في حديث لـ"النشرة"، إلى أنّ المشكلة الأساسية تكمن بالسلطة التنفيذية، أي مجلس الوزراء، الذي يقع على عاتقه تطبيق القوانين، وتلفت إلى أنه منذ العام 2000 هناك 52 قانوناً غير مطبّق، في حين أنّ المجلس النيابي لا يحاسب الحكومات على ذلك، نظراً إلى أنّها صورة عنه وليس هناك من معارضة حقيقية.
وترى أبي حيدر أنّ المجلس النيابي يقر قانونين يتحدث عنهما كما لو أنهما يمثلان إنتصاراً كبيراً، خصوصاً أنّ أسماء القوانين تكون برّاقة كالقانون الأخير، لكن على أرض الواقع ليس هناك ما يطبّق، لا سيّما أن أغلبها مرتبط بقانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
من جانبه، يشدد مخيبر على أن الهيئة باتت حجر الزاوية لإستكمال البنية المؤسساتية الضرورية لمكافحة الفساد، وبالتالي قرار الإلحاق بهيئة وطنية مستقلة متخصّصة جيّد بالمطلق، لكن في الحالة الحاضرة انّ عدم تشكّلها يعود إلى تأخر الجهات المعنية بالتسمية والإنتخاب، لكن السبب الأبسط، من وجهة نظره، هو غياب الإرادة السياسية والجدّية في مكافحة الفساد، الذي ليس حالة مرضيّة ببعض الموظفين الّذين يمكن ملاحقتهم قضائياً، بل هو مشكلة بنيويّة تكاد تكون أداة لإدارة الدولة، وأمثلتها الأكثر خطورة شبه مقوننة، وبالتالي الفساد الكبير في غالبيته منظم بمراسيم وقوانين تمرّست السلطات السّياسية ومتولّيها في إستغلالها لتحويل وظائف وأملاك عامة إلى المحاسيب.
هذا الواقع، يدفع أبي حيدر إلى طرح سؤال جوهري يتعلق بالهدف من إقرار كل هذه القوانين: هل هو لإرضاء المجتمع الدولي أو إرضاء الرأي العام أو التنفيذ؟، لتؤكد أن لبنان بات لديه شبكة مهمة من القوانين إلا أن العبرة تبقى بالتنفيذ الذي لا يحصل، وتشدد على أن الأهم من تعيين الهيئة، التي تحتاج إلى وجود حكومة، هو طريقة التعيين الشفافة، بالإضافة إلى الوقت، وتسأل: "بحال بدأ العمل منذ الأمس وليس اليوم، هل لدى الشعب اللبناني القدرة على الصمود والثّقة، مع العلم أنّ النّية غير موجودة"؟، وتذكّر بأنّ قانون الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء موجود منذ العام 2002، أي منذ ما يقارب 20 عاماً، من دون أن يتمّ تطبيقه.
بالنسبة إلى مخيبر، القوانين لا تكفي وحدها لأنها تحتاج إلى تطبيق، بينما المنظومة الفاسدة إنما تستميت كي تجعلها غير فعّالة بغض النظر عن صياغتها، ويضيف: "المنظومة تقرّ في مجلس النواب القوانين رغماً عنها، لأنه لا يمكن أن تتصدى بوجه سافر لخطوات إصلاحيّة يطالب بها جميع اللبنانيين بالإضافة إلى المنظومة الدولية".
في المحصّلة، يرى مخيبر أن ما قد يساعد على بناء منظومة جديدة هو إنهيار القديمة الفاسدة، ويلفت إلى أن أهم ما إنهار فيها هو مصادر تمويلها، أيّ الماليّة العامّة والنّظام المصرفي الذي كان أداة لتمويلها، وبالتالي البقرة الحلوب التي توزّع مغانمها على المحاسيب شحّ حليبها، ما يعني أن هذه الدولة التي تعمل على الفساد تعطّلت عملياً، لأنها لم تعد قادرة على إعادة توزيع مغانم غير موجودة، ويضيف: "هذا الظرف رغم صعوبته قد يكون مؤاتياً لإعادة بناء الدولة على أسس الجديدة".