على طريقة شعار "لا داعي للهلع" الذي رفعه اللبنانيون في وجه فيروس كورونا، فكانت النتيجة أن تفشّى المرض، وسادت الفوضى، وغاب العلاج، اختار رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري أن يقابل "الرسائل" التي أطلقها رئيس الجمهورية ميشال عون، في حديثه الصحافي الأخير، والذي رفع السقف فيه إلى أعلى الدرجات، بشعار "لا داعي للردّ".
قد يكون للحريري "مبرّراته" لعدم الردّ، إذا كان يسعى لتجنّب "اشتباك" جديد بينه وبين رئيس الجمهورية، لا طائل منه في هذه المرحلة، طالما أنّه لن يؤدّي إلى "الفرج" الذي ينتظره اللبنانيون منذ أشهر، وطالما أن لا "أمل" يُرتَجى بإمكان أن يقود إلى أيّ "خرقٍ" من شأن الوساطات الحكومية المتشعّبة أن تبني عليه، للهروب من "المراوحة".
لكنّ مثل هذه "المبرّرات" تنتفي، في الشكل والمضمون، حين يترافق "الصيام" عن الكلام، والردّ المُباح، بـ"اعتكاف" عن العمل والجهد، كالذي تشهده الساحة السياسيّة هذه الأيام، وشهدته على مدى الأشهر الماضية، في حين أنّ المطلوب من رئيس الحكومة المكلَّف وسائر الفرقاء، وصل الليل بالنهار، لإنجاز المهمّة، والاتفاق على "الصيغة" الحكوميّة.
فبين لهجة عون العالية إزاء الحريري، مع اعتباره "غريب الأطوار"، وعجزه عن فهم أسلوبه في العمل، وردّ الحريري المقتضب، وفق ثابتة أنّ "الرسالة وصلت"، قد لا يكون تضرّع الأخير إلى الله ليسأله "الرأفة باللبنانيّين" هو الحلّ المثاليّ، لأنّ تأمين مقوّمات هذه "الرأفة" لن يأتي، بالسجالات التي لا تزال تأخذ مداها، وكأنّ البلاد في وضع طبيعي...
رسائل "حازمة" وأكثر
في المبدأ، يقول مؤيدو رئيس الجمهورية إنّ الرسائل "الحازمة" التي وجّهها الأخير في حديثه الصحافيّ الأخير، تستوجب "التمعّن"، وقراءة دلالاتها بتأنٍّ، بدل وضعها في سياق "اشتباك" لا يتوخّاه الرئيس، أو "حرب إعلامية" يحرص على تفاديها، فيما يجهد الآخرون لفرضها عليه، عبر "محاصرته" بين خيارات "أحلاها مُرّ".
بحسب هؤلاء، قد لا يكون عنوان اللقاء "دفاعيًا"، وإن اضطر رئيس الجمهورية لدحض اتهاماتٍ تحوّلت في عيون البعض، إلى ما يشبه "الأحكام المُبرَمة"، رغم افتقادها للكثير من الحُجَج المنطقيّة، ورغم أنّ مكتبه الإعلاميّ نفاها مرارًا وتكرارًا، كمقولة مطالبته بالثلث المعطّل، التي بات البعض يتعامل معها وكأنّها أمرٌ مسلَّمٌ به لا يحتاج لنقاش، أو حتّى للحديث عن "مصادرة" الرئيس لصلاحيّات رئيس الحكومة المكلّف، بشكلٍ منافٍ بل مُجافٍ للحقيقة.
ويذهب هؤلاء أبعد من ذلك، بالإشارة إلى أنّ الرئيس عون أراد من خلال تصريحاته، قبل هذا وذاك، ردّ التهمة التي يوجّهها البعض له ويحاول "ترسيخها"، لجهة القول إنّه يعمل على "إحراج" الحريري، كمقدّمة "لإخراجه" من المعادلة، وأنه اتخذ قراره برفض التعامل معه، ويريد جرّه إلى "الاعتذار" بأيّ وسيلةٍ ممكنة، ترغيبًا أو ترهيبًا، في وقتٍ يصرّ عون على أنّه يتعامل مع الحريري كما دأب، وكأنّه ابنه، إلا أنّ الأخير هو الذي "تغيّر"، وبات يبحث عن "الخلاف".
بهذا المعنى، يصبح كلام عون "غير الودّي" تجاه الحريري مفهومًا ومبرَّرًا، أقلّه برأي أنصاره ومؤيّديه، فرئيس الجمهورية "محروق" على تأليف الحكومة، كما يقول، لكنّه "لن يرضخ" للابتزاز الذي يُمارَس بحقّه، خصوصًا أنّه يعتبر أنّه قدّم ما يكفي من "تنازلات"، بقبوله أن يرأس الحريري حكومة اختصاصيّين، رغم أنه "يفتقر إلى المعيار الذي يشترطه في الوزراء"، متجاوزًا "إشكاليّة" تجارب الحريري السابقة، وغير المشجّعة في أكثر من مجال.
رد "متحفّظ".. ولكن!
لكن، في مقابل كلام المحسوبين على عون عن رسائل "حازمة"، جاء ردّ الحريري متحفِّظًا، حاملاً بين طيّاته الكثير من الدلالات، التي تقاطعت عند "السلبيّة"، سواء لجهة تكريس "الجمود" الحكوميّ، الذي يبدو أنّه سيستمرّ فصولاً في المرحلة المقبلة، أو لجهة تأكيد "القطيعة" بين الجانبيْن، علمًا أنّ دعوة الحريري الله "ليرأف باللبنانيّين" بدت معبّرة في هذا السياق.
وما لا يقوله الحريري صراحةً في ردّه المبطن على كلام عون، يفصّله المحسوبون والمقرّبون منه، الذين يتوقّفون عند بعض "المفارقات" التي حفل بها حديث عون، الذي خرق الكثير من "الضوابط" التي كان معمولاً بها سابقًا، وأبرَزَ "انفعالاً" في التعاطي مع الحريري، بعدما اتّهم الأخير بأنّه مارسه في لقائهما الأخير في قصر بعبدا، وفي تصريحه الشهير للإعلاميّين في أعقابه، والذي أدخل البلاد في "متاهةٍ" لا على البال ولا على الخاطر.
ويعتبر "الحريريّون" أنّ فرضيّة "الإحراج فالإخراج" باتت بمثابة "الأمر الواقع" الذي يصعب على رئيس الجمهورية "نكرانه" مهما أرفقه بعبارات "تلطيفية أو تجميلية"، تمامًا كما هو تمسّكه بالثلث المعطّل، الذي بات جميع اللبنانيين مقتنعين به، علمًا أنّ هذه "الاستراتيجية" بدأت منذ ما قبل تكليف الحريري، حين حاول عون "ثني" النواب عن الإقدام على التسمية، وتكرّست في الأسبوعين الأخيرين بشكل لم يعد يترك أيّ مجال للأخذ والردّ.
لكن، أبعد من هذا "الانفعال"، و"الانتقادات" التي طالت الحريري بالمباشر، ثمّة بين "المستقبليّين" من يعتبر أنّ "الرسائل الأهمّ" في كلام الحريري، تكمن في "دفاعه الشرس" عن رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، وبشكلٍ مُبالَغٍ به، كوصفه تارةً بأنّه "تلميذه" وطورًا بأنّه "فولاذي"، وذهابه لحدّ تصوير "تجاهله" في استشارات التأليف بمثابة "جريمة"، ما كان ليسكت عنها لو كانت الظروف عاديّة، رغم أنّ الدستور لا يفرض على رئيس الحكومة المكلّف التشاور مع أحد في تشكيلة حكومته سوى رئيس الجمهورية.
المحظور وقع...
بين رسائل عون الحازمة وردّ الحريري المتحفّظ، ثابتة واحدة، عبّر عنها الرجلان بشكلٍ أو بآخر، كلّ من مِنبَره وعلى طريقته، فرئيس الجمهورية قال، في معرض حديثه الصحافي، إنه "لن يغامر في مسائل مصيرية"، وإنّه على الحريري "أن يحتكم إلى ضميره، ويبادر إلى الاعتذار الشجاع"، إذا تعذّر عليه تقديم صيغة "واقعيّة" للحكومة.
وإذا كان عون أوحى بهذا الكلام أنّ الأمور "تراوح مكانها"، فإنّ الحريري أعطاها بُعدًا أكثر سوداوية، حين اكتفى بالقول ردًا، إنّه "يسأل الله الرأفة باللبنانيين"، ما يوحي وكأنّ كلّ الطرق مسدودة، وأنّ المحظور وقع، والانهيار بات حقيقة لا لبس فيها، وأنّ المطلوب "معجزة ربّانية" تنقذ اللبنانيين، إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
بين رسائل عون وردّ الحريري، ثابتة وحيدة تبدو صامدة، وهي أنّ "التصلّب" على حاله، وأنّ أيّ شعورٍ بالمسؤولية لم "يهبط" على من ينبغي أن يتحلّوا به، لتصبح الولادة الحكومية معه هي الأمر "البديهيّ" الوحيد، بعيدًا عن البحث غير المشروع عن "مكاسب وانتصارات" لن تكون أكثر من "قنابل وهمية" متى سقط البلد بكلّ ما فيه!.