لم يُعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري عن مبادرته بشأن تأليف الحكومة لغاية الآن. لا يعني ابقاء التفاصيل طي الكتمان بأن رئيس المجلس يعجز عن طرح قواعد وركائز المبادرة أمام الرأي العام. لكن يبدو أن "الأستاذ نبيه" يريد فرض تسوية إنقاذية مرنة بهدوء، بعيداً عن صخب المناورات السياسية التي تدور عادة في البلد لتحسين الشروط الحكومية. مما يعني أنه يؤمّن أرضية خصبة تُتيح تأليف المعنيين حكومة جديدة، على قاعدة ينتهجها عادة "حكيم المجلس" في طرحه التسويات الوطنية: لا غالب ولا مغلوب.
ومن هنا، تتخّذ مبادرة برّي مساراً جدّياً فاعلاً ومنتجاً: على الأقل لم يُرصد هذه المرة وجود سهام سياسية من أي إتجاه تطال مساعي بري، ولا عدم إكتراث، لا بل إن المصادر المطّلعة تؤكد "وجود أجواء إيجابية يُبنى عليها هذه المرة، لم تشهدها مراحل التأليف قبل ذلك، منذ تكليف سعد الحريري بتأليف الحكومة".
ما هي المبادرة؟
لا يبدو أن رئيس المجلس حدّد بشكل نهائي سوى إقتراح توسيع الحكومة الى 24 وزيراً، من دون وجود ثلث معطّل لأي فريق، مما يعني أن التوزيع سيكون وفق معادلة 8+8+8. ما عدا ذلك، سيكون كل تفصيلٍ قابلاً للأخذ والرد في حسابات بري التسووية. لكن الشيطان يكمن في تفاصيل المبادرة: من يسمّي الوزراء؟ إذا كان عنوان التكنوقراط مسلّماً به من أجل ترجمة رؤية الحريري في حشد التأييد والمساعدة الدولية لحكومة خالية من السياسيين، وألا وجود لمشكلة في توزيع حصة المسلمين(12 وزيراً: خمسة شيعة وخمسة سنّة ودرزيان)، فإنّ هناك تبايناً لا يزال قائماً حول تسمية الوزراء المسيحيين البالغ عددهم ايضاً 12: سيسمي فريق رئيس الجمهورية ميشال عون وتكتل "لبنان القوي" سبعة وزراء مسيحيين بمن فيهم الوزير الأرمني، ليبقى خمسة وزراء مسيحيين سيكون من بينهم وزيران يسميهما تيار "المردة"، ووزير يطرحه الحزب "السوري القومي الإجتماعي"، بينما لا تزال تسمية الوزيرين المتبقيّين عقدة تمنع الوصول الى خواتيم سعيدة تُتيح تأليف الحكومة. لذا، يتم البحث عن المخرج في تواصل مفتوح بين عين التينة وحارة حريك و"ميرنا الشالوحي" وبعبدا. كما يتم إطلاع الحريري على مساعي تقريب وجهات النظر بصورة متواصلة.
تواكب العواصم الإقليمية والدولية مجريات مبادرة بري، وتنظر بعين الرضا والتأييد لطرح يؤدي لإخراج لبنان من مأزقه. يريد الألمان الإستثمار في مرفأ بيروت، ويسعى الأوروبيون والروس للإستثمار في حقول الغاز والنفط الموعودة في بلوكات لبنان البحرية، بينما ترصد الولايات المتحدة الأميركية تفاصيل الساحة اللبنانية التي لا تريد خسارتها، كما أوحت زيارة الجنرال الأميركي كينيث ماكنزي الشهر الماضي إلى البقاع إضافة الى نشاط السفيرة الأميركية دوروثي شيا في مناطق لبنانية عدّة.
تظهر الاندفاعة الدولية نحو لبنان، على وقع مستجدات اقليمية ودولية لن تكون بيروت بعيداً عن تداعياتها: هناك تعاون ايراني-صيني تكرّس في وثيقة شراكة تاريخية بين طهران وبكّين، في عز الانفتاح الصيني على العرب والسعي لفرض نفوذ اقتصادي للصين في كل دول الإقليم، بينما تثبّت روسيا وجودها وأدوارها في هذه المساحة ايضاً، في وقت يسلك فيه التفاوض الأميركي-الإيراني سبيله عبر طريق أوروبي من جهة، ومن خلال خطوات أميركية لرفع عقوبات عن ايران تتظهّر بداية في رفع الحظر عن أموالها في عدد من عواصم العالم.
كل ذلك، يشير إلى ان ثمة ما يدفع اللبنانيين الى كسر الجمود القائم والمراوحة الحكومية، وهو ما يعزّز من فرص نجاح مبادرة بري: فهل تولد الحكومة خلال أيام؟ في حال توسّعت مساحات التفاعل الإيجابي المتوافرة حالياً ستولد الحكومة قريباً رغم المناورات السياسية الجارية الآن، التي لا يمكن إلاّ أن تقرأ ايضاً في المشهد الخارجي المحيط بنا.