لا شكّ أن الحصار الظالم على الشعب السوري الذي تفرضه الدول الاستعمارية وحكوماتها المجرمة المعروفة بارتكابها جرائم الإبادة الجماعية طوال تاريخها يعتبر من أشد أنواع الظلم الذي لحق بأي شعب تاريخياً، ولكن هذا الحصار على سورية هو وصمة عار على جبين حكومات وشعوب وتاريخ أميركا وأوروبا؛ فقد تحمل الشعب السوري معاناة تفوق بمدّتها مدة الحربين العالميتين التي أشعلتها هذه الدول الاستعمارية والتي أبادت فيها بالحرب والجوع مائة مليون من البشر، وتفوق في تفاصيل مظلوميتها كثيراً من قصص الظلم التي وقعت ببني البشر على مرّ التاريخ، ولكن فرادة هذه الأرض أنها حنونة على شعبها ولذلك كُتب له ولها البقاء على مدى عشرة آلاف عام وأصبحت دمشق أقدم عاصمة مأهولة باستمرار في التاريخ. هناك على هذه الأرض دائماً ما يستحق البقاء وهذا ما يعرفه جيداً السوريون ويتوارثونه عبر الأجيال، ولكن الذي يستهدفهم ويطمع بثرواتهم وموقعهم الجغرافي المميّز تحت الشمس يرفض أن يقتنع أنه مهما فعل
وعتى فإن السوريين سيبقون كالطور الشامخ. وعلّ أحد العوامل المساعدة لصمود السوريين على مرّ العصور هو أنهم سرعان ما ينسون أو يتناسون آلامهم، وينطلقون للحياة وكأن شيئاً لم يكن؛ وأكبر دليل على هذا هو ما عشناه خلال عشر سنوات عجاف من إرهاب غربي وقصف وقذائف وقطع طرق وتفجيرات ضد المدنيين وذبح وإبادة وتخريب للبنى التحتية وحرق للمحاصيل والغابات ومنع للفلاحين من الوصول إلى أراضيهم وزراعتها وحرمان الملايين من الوقود والغذاء الدواء؛ إذ لا نجد اليوم أحداً يتحدث عن تلك الأيام، ونحن نستمع من فريق باحث إلى قصص صمود استثنائية قادها أبطال مجهولون في كل منحى من مناحي الحياة يشعر السوريون وكأن هذا قد حدث في الماضي البعيد لأنهم يريدون أن يفكروا بإصلاح ما أفسدته الحرب والانطلاق إلى حياة أفضل. ومن هنا أيضاً يضيقون ذرعاً باللحظة الراهنة وبكل أشكال المعاناة التي يتسبّب بها الحصار المجرم عليهم وتراهم يتساءلون في كلّ جلسة حوار وفي كلّ مكان: وماذا بعد، وأين هو الضوء في نهاية النفق، وإلى أين المسير؟
إذا ما انطلقنا من حقيقتين ثابتتين هما الاستهداف اللاشرعي واللاقانوني والمصمّم على كسر إرادة السوريين من جهة، وصلابتهم وحنكتهم التاريخية في مقاومة كل أنواع الغزاة والضغوط من جهة أخرى نصل إلى الاستنتاج أن المعركة مستمرة وأن الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي والتركي لأجزاء عزيزة من أرض بلدنا الحبيب والضغط الإعلامي الغربي الممنهج إنما يستهدف أول ما يستهدف استمرار إشغالنا بمعارك مستمرة كي لا نتمكن من التركيز على إحياء الأرض وإعادة الإعمار والانطلاق بمشاريع التطوير والتحديث والإنجاز، كما أن الإجراءات القسرية الأحادية الجانب تهدف إلى حرمان السوريين من مقومات الحياة الأساسية. والمطّلع على الوضع في العراق واليمن وليبيا وما يتم تدبيره للسودان ومصر بموضوع المياه ومواضيع أخرى يوقن أن المخطط على بلداننا العربية من المحيط إلى الخليج واحد ويبغي الوصول إلى هدف واحد وهو كسر شوكة العرب وإطلاق المجال للصهيونية وعملائها الصغار من حكام ومعارضات عميلة وطابور الإشاعات الخامس الذي وظيفته هدم المعنويات الوطنية ونشر روح العدمية والاستسلام للعدو المتربص في المنطقة لتغيير وجه هذه المنطقة.
يكاد لا يصدّق المرء أوجه التشابه في الإجراءات الظالمة التي حلّت بالشعب العراقي والسوري والليبي واليمني وكأن المعتدي يعمل على تنفيذ خطة واحدة ينقلها من مكان إلى آخر بعد أن اكتسب خبرة في التنفيذ وتوقعات ردود الأفعال. ومن الواضح أن الهدف الأهم الذي يسعون إلى تحقيقه هو تدمير الهوية العربية والقضاء على كل مرتسمات هذه الهوية إن أمكن؛ سواء في الآثار أو الزراعة أو الصناعة أو الفنون أو الحرف أو حتى العادات والتقاليد المتوارثة من الآباء والأجداد. في مواجهة هذا التسونامي المحليّ ولإقليمي ما هي الطرق المجدية الضامنة للبقاء والانتصار للحياة؟
لقد أبلى الجيش العربي السوري والشعب السوري برمّته بلاء متميزاً على المستوى العسكري أدهش العالم بقدرته على المواجهة والانتصار على أعتى قوى إرهابية تمّ تجنيدها وتجييرها من أجل محاربته، ووصلت الأمور أنفاقاً شديدة الظلمة في بعض السنوات والفترات والأيام، ولكن السرّ هو أن اليأس لم يدخل يوماً إلى القلوب ولم يُسمح له بالاستقرار في النفوس، بل إن التضحيات الجسام كانت دائماً حافزاً لتقديم المزيد من التضحيات لأن الوطن هو الأثمن والأغلى. واليوم في
ظل هذه الضائقة التي نتعرض لها جميعاً يتردّد السؤال: وماذا بعد؟ وأعتقد أن الجواب على هذا السؤال يمكن استنتاجه من التجارب السابقة والكثيرة والعديدة التي خاضها السوريون في مجالات عدة؛ فغريزة البقاء على هذه الأرض تملي علينا جميعاً اجتراح أدوات البقاء وقد بدأ أبناء هذا الشعب بفعل ذلك.
حين كنت أذهب إلى قريتنا خلال سنوات الحرب كنت أجد أن أهالي القرية بدأوا يستقدمون كل حاجاتهم الغذائية من المدينة بما فيها البيض واللبن والحليب وغيرها. اليوم حين أذهب إلى قريتنا يتحدثون معي عن أهمية إنشاء مركز لتوزيع اللبن والحليب في المنطقة لأنهم عادوا إلى زراعة الأرض بعد أن دحروا الإرهابيين منها وسقوها بدمائهم الطاهرة، وتسمع في كل صباح ومساء أجراس قطعان الأغنام تغادر القرية صباحاً وتعود إليها مساءً لتؤمّن كل مشتقات الحليب والألبان لأهالي القرية، كما يبيعون جزءاً منه في المدينة، وأصبحت أراضي الديار خضراء تعجّ بكل ما تحتاجه العائلة من خضروات تزرعها النساء لتلبّي احتياجات الأسرة منه دون أن تضطر إلى شراء شيء. وانطلقت زراعة اللوز والزيتون والصنوبر في حركة جمعية تؤمن بأن البقاء للإنسان
العامل في هذه الأرض وأنه مهما غلت التضحيات فإن البقاء هو الأهم وأن واجب من بقي هو الاستمرار في الزراعة والإنتاج وضمان سبل البقاء.
لا شك أن الحصار المفروض خانق وظالم ولكن الغريزة التاريخية للشعوب العريقة القديمة تمكنت دائماً من إفشال كلّ أنواع الظلم والانتصار عليها. وإذا ما أخذنا نموذجاً من الحاضر القريب نرى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد تعرضت لأشدّ أنواع الحصار ومنذ عشرات السنين بعد أن فُرضت عليها حرب عبثية استمرت قرابة العشر سنوات في ثمانينيات القرن الماضي، والسؤال هو: أين هي إيران اليوم؟ إيران اليوم تحتلّ المركز الرابع في العالم في تقنية "النانو" كما أنها تحتلّ الموقع الخامس عشر في العالم في البحث العلمي وتصنع الصواريخ والسفن وتثبت وجودها كقوة إقليمية ضاربة، ولولا إنجازات شعبها في كل هذه المجالات لما قدمت الصين إليها ووقّعت معها اتفاقية لمدة خمسة وعشرين عاماً. لقد جال وزير الخارجية الصيني في بلدان خليجية أخرى ولكن الأهمية تنبع أو تستند إلى ما فعله البلد نفسه وإلى ما أنجزه البلد نفسه كي يبني عليه مع الآخرين.
لقد برهنت إيران أن العقوبات تؤذي ولكنها لا تميت شعباً يمتلك الإرادة والذكاء والعمق الحضاري والتاريخي وهو ما يملكه أيضاً شعبنا العريق للتفوق على كلّ أساليب الأعداء واستهدافاتهم. ولولا بسالة الجيش العربي السوري في الدفاع عن شعبه لما انضمّ إليه الحلفاء والأصدقاء، ولكن إصراره البطولي على أن يثبت ذاته وقدراته في الميدان هو الأساس، ولذلك فإن الشعب السوري سيتجاوز هذه المحنة والمحن المفروضة عليه بتصميم ووعي وإرادة لا تلين بإذن الله رغم الحملة الإعلامية الغربية وإشاعات العملاء التي تستهدف إحباط الناس وشلّ إرادة الإبداع والبقاء والإنتاج وإبعاد أنظار الناس عن العدو المتربص بسورية، وتوجيه هذه الأنظار نحو الرموز الوطنية وتوجيه الاتهامات لها، ويسطّر مثلاً آخر في مقارعة الأعداء والانتصار عليهم ومن ثمّ العمل على تحرير ما تبقى من أرضه، والتاريخ يشهد له أنه قد تمكن من فعل ذلك مرات ومرات، ولذلك فإن قوى الشر والعدوان والعمالة تستجمع كل ما لديها من قدرات عسكرية وإعلامية وسياسية لكسر إرادة الشعب السوري البطل لأنه كان أنموذجاً دائماً في إلحاق الهزيمة بالغزاة وعملائهم، وفي الحفاظ على الأرض والبقاء والعمل المنتج والذي هو شرط لازم ومستمر لاحتفاء الأرض بسكانها
الأصليين الذين صنعوا حضارتها وصدّروها للبشرية منذ عشرات آلاف السنين وأقسموا ألا يسمحوا للأعداء والغزاة وعملائهم أن يغيروا من هويتها أو لغتها أو قدرتها على ضرب الأنموذج والمثل لشعوب الأرض قاطبة.