لن يكون التفاوض بين ٤+١ وإيران في فيينا هذه المرة كمحطّات المفاوضات الغربية مع طهران سابقاً. تغيّرت المسارات السياسية والإقتصادية في العالم: لم تعد الولايات المتحدة الأميركية هي ذاتها، ولا الصين تتردّد في الإندفاعة السياسية الى جنب الهجوم الإقتصادي، ولا روسيا تخاف من عقوبات وتدخّلات للحد من نفوذها، ولا الأوروبيون يقدرون أن يعيدوا عقارب الزمن الى سنوات، كما أن الإقليم الذي تقع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في صلبه تبدّلت موازين القوى فيه، وباتت طهران لاعبة رئيسية في كل اتجاهاته.
مما يعني أن أي تفاوض سينطلق من واقع أن إيران أقوى مما كانت عليه في السنوات الماضية، رغم كل العقوبات المتشددة التي لا تزال تواجهها. علماً أن السنوات المقبلة ستحمل للإيرانيين مزيداً من عناصر التعملق بفضل الإتفاق مع الصين الذي سيولد ثورة صناعية وإقتصادية داخل الجمهورية الإسلامية، في وقت تتظهّر فيه الشراكة بين إيران وروسيا عسكرياً وسياسياً لتثبيت مسار استراتيجي فعّال.
إزاء الإرتياح الإيراني بفضل الإكتفاء الذاتي الذي صارت فيه الجمهورية الإسلامية تُنتج مثلاً كل حاجياتها الإلكترونية، يعاني خصوم طهران من أزمات وإنشغالات جوهرية: يتفرّغ الرئيس الأميركي جو بايدن لملفات الولايات المتحدة الداخلية التي لا تقتصر على الوضع الإقتصادي بل تطال العنوان الأمني نتيجة القلق من انفلات يقود الى مواجهات مسلّحة: لأول مرة يتحدث رئيس أميركي عن "إرهاب داخلي"، ويُبدي خوفه على الوحدة داخل المجتمع الأميركي. ينبع القلق من عوامل عدة، أبرزها الوضع الإقتصادي المأزوم وما خلّفته تداعيات جائحة كورونا، علماً أن الإنحدار الإقتصادي تعاني منه الولايات المتحدة منذ ما قبل وصول الرئيس الأسبق باراك اوباما، الذي جاء نتيجة الرغبة الأميركية بوضع خطط لمنع الإنهيار، وما خلّفته خطته الخلافية بشأن الملف الصحي، ليُنتخب الرئيس السابق دونالد ترامب محاولاً النجاح بمهمة صعبة، فكاد يرفع مستوى الولايات لتحقيق الإرتياح الإقتصادي، لكن صراعه مع الصين وتداعيات كورونا طحنت كل إنجازاته المالية. اما بايدن الذي يواجه اوضاعاً أكثر صعوبة، فهو يركّز حالياً على وضع خطط للحدّ من تدهور الإقتصاد، غير أنّه يواجه تحدّيات، محاولاً تفكيك عقدها، بدءاً من ملف المهاجرين والحدود مع المكسيك، الى التعاطي بمرونة مع الحالة الترامبية، ومن هنا يخشى من تفلّت الأمن، بحيث باتت تتكرر الحوادث قرب "الكابيتول" بشكل شبه يومي في الآونة الأخيرة.
كل ذلك يعني أن اولوية البيت الأبيض هي داخلية، تأتي بعدها في الدرجة الثانية المخاوف من الصين، التي تبتلع الإقتصاد العالمي وتساهم في وأد الصناعات الأميركية والأوروبية.
بالمحصلة، سيكون بايدن أضعف من أوباما تجاه ايران، بينما باتت طهران تملك اوراقاً عدة: قدرات صناعية، شراكة مع كل من الصين وروسيا والهند، أدوار ريادية في الإقليم. وهل يمكن حل أزمات عدة في أكثر من ساحة إقليمية من دون التفاوض بالمفرّق والجملة مع الإيرانيين؟.
ان مصلحة الغرب هو بنجاح التفاوض النووي مع طهران، عبر ترميم إتفاق سبق وتمّ وضعه قبل أن يجمّده ترامب. فهل يكون سريعاً قبل انتخابات ايرانية مرتقبة في حزيران المقبل؟ يبدو ان الأوروبيين والاميركيين مستعجلون أكثر مما هي الحاجة الإيرانية الى رفع العقوبات عنها. وقد بان ذلك من خلال قرار فك القيود تدريجياً عن الاموال الإيرانية في عدد من عواصم العالم. فلننتظر نتائج جلسة فيينا، ثم زيارة رئيس وزراء كوريا الجنوبية الى طهران.