مَن لا يتعلّم من التجارب يكرّر السقوط. علينا أن نستفيد من مرحلة الهبوط نحو القعر، على قسوتها وفداحتها، لكي نُحسِن البناء عندما يحين الوقت. أن نبني على صخرةٍ صلبة، كي لا يتكرّر الانهيار.
التعثّر في تشكيل الحكومة لا يختصر أزمة لبنان. هو جزءٌ من الأزمة، ولكنّ الحكومة التي ستُشَكَّل، قريباً كما نأمل، ستواجه تحدّيات كثيرة وقد تفشل أو تنجح.
وبالتوازي مع ما ستحقّقه الحكومة، خصوصاً في الملفات الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة، نجد حاجةً قصوى، انطلاقاً من تجارب مرحلة ما بعد الحرب، وخصوصاً مرحلة ما بعد العام 2005، للانطلاق في تطبيق اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة التي باتت ضرورةً اليوم.
إنّ ما شهدناه، لاسيما في مرحلة ما بعد انتشار فيروس كورونا، عزّز الحاجة إلى تطبيق اللامركزيّة بعدما طغت المبادرات المناطقيّة، سواء أتت من نوّاب أو بلديّات أو جمعيّات، على ما حقّقته الإدارة المركزيّة التي أصابها العجز في مكان، والفساد في آخر، وعرقلتها الصراعات مرّات.
تتيح اللامركزيّة تحقيق الإنماء المتوازن الذي بقي شعاراً ولم يُتَرجم فعليّاً أبداً. وتتيح أيضاً فتح الباب أمام التنافس الإيجابي بين المناطق، عبر تشكيل كيانات لامركزية مصغّرة ومنسجمة تستفيد من إمكاناتها ومؤهلات أبنائها ودعم مغتربيها لتتميّز، بدل ما نشهده اليوم من صراعاتٍ سياسيّة أو طائفيّة تعيدنا إلى الوراء في كلّ شيء.
ليست اللامركزيّة تقسيماً، ولا فيديراليّة، ولا تغييراً لوجه لبنان ولا تراجعاً عن دوره. هي وحدة، ما دامت تسعى إلى الأفضل.
لنستفد من تجارب الآخرين. التجربة الإماراتيّة مثلٌ يُحتذى. لا تتصارع الإمارات بل تتكامل. لها رأس واحد وجذورٌ واحدة، ولكنّها متعدّدة الفرع، فتتساعد عند الحاجة وتبحث كلّ منها عن تفوّقٍ ما.
ستبقى الدولة، في النظام اللامركزي، في ظلّ رئيس جمهوريّة واحد وحكومة واحدة وجيش واحد وقوى أمنيّة، ولكن يتعزّز دور الكيانات اللامركزية الذي سيشمل مختلف الشؤون الحياتيّة، ما عدا تلك المرتبطة مباشرةً بالسياسة والأمن والقضاء، وتشمل الإنماء والسياحة والصحة والتربية والزراعة والصناعة والثقافة والرياضة وغيرها...
وستشجّع اللامركزيّة المكلَّف اللبناني على دفع الرسوم والضرائب، وسيسقط الظلم عن مناطق تدفع بدل أخرى تمتنع، وستصنع مناطق تميّزها. هذه تتميّز بتشجيع زراعات جديدة، وأخرى تشجّع المستثمرين في الصناعة، وثالثة تتفوّق في السياحة... وستطبّق مناطق ما ينسجم مع عادات أبنائها ومعتقداتهم، خصوصاً الدينيّة منها، بدل أن يأتي الأمر مفروضاً بالقوّة، وخلافاً للقانون.
قد يجد البعض في الصورة المرسومة في هذه السطور عن اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة بعض المبالغة الإيجابيّة. ولكنّنا على ثقة بأنّ هذه الخطوة، إنْ دُرست بتمعّن وانفتاح، من شأنها أن تنقذ لبنان وتضمن استمراريّته. استمراريّة نخشى عليها اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
فلنبادر، من خلال إطلاق ورشة لإقرار اللامركزيّة والبدء بتنفيذها، وهي البديل من طرح البعض للمؤتمر التأسيسي، إن شئنا أن يبقى لبنان، وأن يصبح أفضل ممّا هو وممّا كان.