لم يكن رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب، ولا اعضاء الحكومة من الوزراء، راغبون في تحمّل مسؤوليات كبيرة ملقاة على عاتقهم، بحيث اتت خطوة الاستقالة بمثابة مخرج آمن لهم للهروب من تداعيات مشاكل كبيرة يغرق بها لبنان. وكي لا نعدد العشرات من المشاكل، نكتفي بمسألة التحقيق الجنائي التي حاولت الحكومة المستقيلة اقرارها سابقاً لكسب رصيد كانت بأمسّ الحاجة اليه، وكان يمكن ان يساهم في تجنيبها –ولو مرحلياً- كأس الاستقالة المرير. ولا شك ان هذا الملف الشائك، كان احد اسباب اعتبار دياب انه من الافضل للحكومة الجديدة التعامل مع هذا الموضوع، كونها قادرة على اخذ قرارات عملية سريعة، فيما الواقع يشير الى ان اتخاذ مثل هذا الموقف هو امر لا قدرة على أي حكومة اتخاذه ما لم يكن مرتبطاً تحت الطاولة بوعود وتدابير عمليّة كفيلة بابقائه حبراً على ورق، كغيره من القرارات المتّخذة على صعيد كبير، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، قانون الإثراء غير المشروع ومحاولات استرداد الاموال المهرّبة...
حاول الكثيرون، ومنهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الاصرار على بدء العمل بهذا الملف دون مواربة وبالسرعة اللازمة، وما الكلام الاخير لعون نفسه حول تحذير وزارة المالية وحاكم مصرف لبنان من عدم التجاوب مع شركة "الفاريز ومارسال"، سوى تجسيد عملي لما يتمّ الحديث عنه. ولكن، علّمتنا التجربة ان القوى الداخليّة التي تستمد قوّتها وحضورها من القوى الخارجيّة، أقوى من كل القوانين والقرارات، وقادرة على مقارعة الساحر هوديني والتغلب عليه في اخفاء الملفات الى حد نسيانها من قبل الناس. واللافت ان المجتمع الدولي الذي دفع بثقله لإظهار المشكلة على انها اقتصادية-مالية بحتة، يتنافس اليوم في سبيل الوصول الى تسوية ترضي الجميع وتطيح بكل الشروط التقنية والاختصاصية التي كان يرغب في فرضها بالقوة، حتى انه بات من المقبول على ما يبدو عدم تشكيل الحكومة من اختصاصيين سوى بالشكل، اي انهم مؤيّدون وميّالون الى احزاب وتيارات سياسية من دون ان يكونوا من المنتسبين اليها او من حملة البطاقات الحزبيّة، لتعود الامور الى المربّع الاول في كل شيء، مع التميّز فقط في طريقة الاخراج، بحيث تقرّ القوانين وتوضع القرارات بسرعة لجهة التحقيق المالي الجنائي، من دون ان نصل الى الاهداف الموضوعة بحيث يتم الاكتفاء فقط بالتضحية ببعض الاشخاص لاظهار أنّ النّية موجودة ولكن، بعد مرور بضعة اشهر توضع كل الملفات في الادراج ويقفل عليها بالشمع الاحمر ويصبح الملف في عهدة النسيان.
وما يصح على التحقيق الجنائي، سيطال ايضاً التشكيلة الحكوميّة المتوقعة، التي ستكون اسماء وزرائها من اشخاص يتم اختيارهم من قبل المرجعيّات السّياسية والحزبيّة بعيداً عن الاضواء، ويُلبسون ثيابا للاختصاص والاستقلاليّة عن الجميع والشفافيّة في التعاطي مع الملفّات والازمات التي تعصف بلبنان. كل هذا برضى خارجي وبدعم الدول الكبرى والصديقة والشقيقة، فنعود الى الحلقة المفرغة نفسها التي انطلقنا منها منذ نحو سنتين، ونعتبر اننا حققنا "انجازاً" كبيراً يتمثل في انتشال البلد من براثن الحريق الذي يلتهمه على اكثر من صعيد، وعبّدنا الطريق امام سلسلة اصلاحات وتغييرات جذريّة (في الشكل)، سيظهر بعد سنوات قليلة انها كانت كغيرها من الاجراءات المتّخذة (في المضمون).
عند التسويات تضيع القيم والمبادئ والاهداف، وتبقى فقط المصالح والقدرة على ضمان نسبة النفوذ الاكبر التي يمكن الحصول عليها، تمهيداً للاستحقاقات المقبلة وفي مقدّمها صلاحيات الصفقات لاعادة احياء لبنان، ومسائل التنقيب عن النفط وشروطه بالنسبة الى اسرائيل وسوريا، ناهيك عن الانتخابات النيابية التي ينتظرها السياسيون لاعادة ترسيخ مواقعهم.