يبدو اهتمام الرئيس الفرنسي في الاستحصال على دعم سعوديّ للمساعدة في تأليف حكومة يرأسها الحريري أصعب من فك معضلة الانكفاء السعودي عن الملف اللبناني عامة، والحكومي خاصة، فالحديث عن علاقة متينة بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ليس واضحاً حتى الساعة ولا دقيقاً ولا يوجد أي مؤشر حيال امكانية أن تكون فرنسا هي اقوى «الخروق» لدى المملكة وتحديداً عند «ابن سلمان» للمساهمة في إطلاق عجلة التشكيل إلا انه لم يكن من مناص من ضرورة طرح مسألة تشكيل حكومة لبنانية بين الطرفين في الاتصال الهاتفي الأخير اللذين أجرياه حيث أعلنت الرئاسة الفرنسية أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان يتشاركان «الرغبة نفسها في رؤية حكومة ذات مصداقية» في لبنان لإخراجه من أزمته الحادّة وأنهما يعتبران أنّه لا بدّ من حكومة «قادرة على تنفيذ خريطة الطريق للإصلاحات المطلوبة للنهوض، والتي التزم بها القادة السياسيون اللبنانيون»، مع التشديد على أنّ تشكيل الحكومة هو «شرط لحشد مساعدة دوليّة طويلة الأمد للبنان». لكن كل هذا من دون أن يأتي البيان على ذكر دعم جهود فرنسا تشكيل حكومة برئاسة الحريري او معارضة ذلك بحيث بقي البيان مفتوحاً على تفسير الرسائل للطرفين.
العلاقة بين الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي لم تكن في أوجها طيلة الفترة الماضية وتحديداً التي امتدّت ما بين مرحلة مقتل الصحافي جمال خاشقجي وبدء التحقيقات للضغط على ابن سلمان والمملكة ببعض ملفات المنطقة. ويذكر للرجلين محادثة مستفزة بالأرجنتين بعدما التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على هامش قمة مجموعة العشرين 2018، حيث كشف مسؤول بالإليزيه حينها أن الرئيس الفرنسي أبلغ ولي العهد السعودي أن الأوروبيين سيصرّون على اشتراك خبراء دوليين في التحقيقات الخاصة بمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وان ماكرون نقل رسائل «حازمة جداً» لولي عهد السعودية في ما يتعلق بمقتل خاشقجي، ومنذ ذلك الحين تبدل شكل العلاقة بشكل لافت.
وفي الوقت الذي تحركت فيه سورية في مسألة التنقيب وعقد اتفاقات مع شركة روسية، الأمر الذي يحوز اهتمام أغلب دول الجوار في البحر المتوسط و«إسرائيل» من الجهة الجنوبيّة للبنان فإن إطلاق هذه العجلة قادرة على تسريع المشهد الحكومي وتسخينه من أجل ولادة حكومة قادرة على التفاوض وعقد الاتفاقات والالتزامات خصوصاً بما يتعلق بالاهتمام الفرنسي الكبير.
مصادر خاصة لـ «البناء» كانت قد كشفت عن ضغط فرنسي حصل منذ أشهر على بعبدا لفرض بعض الوزراء وتسميتهم على رئيس الجمهورية الأمر الذي أثار استياءه ومن بينهم اسم «وزير الطاقة» قبل توزيع وجوجلة الأسماء والحقائب وإعادة توزيعها من جديد بين ما يدور اليوم من مبادرات، الأمر الذي كشف الاهتمام الفرنسي منذ ذلك الوقت بهذا الجزء من الملف اللبناني والذي وجد فيه ماكرون ضالته عبر انفجار المرفأ الذي فتح أمامه إمكانية الدخول على المشهد عبر زيارتين الى بيروت أكد فيها أنه يعتبر هذه الساحة من أولوياته ما سمح له الاجتماع بكافة الأقطاب في قصر الصنوبر والكشف عن رغبته بحكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
ليس عادياً دخول الفرنسيين على خط الأزمة، لكن خفوت الحركة وانعدامها في وقت من الأوقات رسم اسئلة مشروعة حول إمكانية وضع المعطيات في السلة الفرنسية وعما إذا كانت فعلاً قادرة اليوم على التقدم باتجاه حل جدّي يستقطب التعاون العربيّ وتحديداً السعودي معها، وبالتالي تخصيص مؤتمر إنقاذ للبنان أم أنها تساهم في المزيد من تقطيع الوقت.
الاهتمام الفرنسي بلبنان المنبثق عن اهتمام بالتنقيب عن النفط وتحديداً وزارة الطاقة هو للمرة الأولى في تاريخها اهتمام «استراتيجي» اقتصادي أبعد من النفوذ السياسي الذي كان يحيط بالحضور الفرنسي منذ سنوات، الأمر الذي يؤكد على اتفاق او انسجام واضح بين الحريري وماكرون حيال الملف وهو الأمر الذي يجعل من الفرنسيين مستعدين لدعم الحريري دون سواه والأسباب هي التالية:
أولاً: إمكانية تعهد الحريري بالتعاون المشترك مع ماكرون في مسائل إصلاحية ومسائل إنتاجية ومن بينها ما يتعلق بوزارة الطاقة والتنقيب والتلزيم المنوط بأحد أفرعه بشركة توتال الفرنسية.
ثانياً: قبول حزب الله للحريري وسعيه لتكليفه تشكيل حكومة دون سواه في المرحلة الحالية ما يعزّز موقعه لدى الفرنسيين لجهة استحالة التوجه نحو حكومة تحدّ لحزب الله في هذه الظروف ما يجعل العمل على ملف التنقيب أكثر ضمانة وهدوءاً فأي عمل مقبل في البحر يجب أن لا يثير شكوك او هواجس الحزب، الأمر الذي يكشف اهتمام الفرنسيين الواضح بطريقة التعاطي والتواصل مع حزب الله أكان لجهة الاهتمام برئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد عنوة في قصر الصنوبر او لجهة التواصل مع مسؤول العلاقات الخارجيّة في حزب الله عمار الموسوي من دون أن تعطي باريس آذان صاغية لجهات محلية تحمل حزب الله مسؤولية الانهيار الحالي في البلاد.
ثالثاً: العلاقة التاريخية بين عائلة الحريري والاليزيه الذي لا يمثل جناح الرئاسة فقط بل أروقته الأمنية والسياسية التي تدرك التاريخ المشترك للتعاطي مع الحريري منذ أن تمّ تعزيز العلاقة بين البلدين في عهد الرئيس الراحل رفيق الحريري والرئيس الفرنسي جاك شيراك.
كل هذا يوضح الصورة بشكل أوفى لكن يبقى التأكيد على الأهم وهو أن أي مسعًى فرنسي لن يصبح ناجزاً إذا لم يتمتع بالزخم الأميركي المطلوب لحسم الملف الحكومي في لبنان وأي نجاح او تقارب فرنسي سعودي لن يصبح فعالاً من دون الدفع الأميركي باتجاهه، الأمر الذي تبدو مؤشراته ايجابية.
وبالمحصلة النجاح في الدور الفرنسي هذا والنجاح في تشكيل حكومة تدخل الفرنسيين وسيطاً نفطياً وسياسياً في المنطقة هو من أكبر الملفات القادرة على تعزيز موقف ماكرون الانتخابي مع اقتراب الاستحقاق عام 2022 وتعزيز موقع فرنسا في المنطقة مع دخولها زمن التسويات المفصلية.