منذ السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019، نجحت القوى السياسية اللبنانية في أخذ البلاد إلى مكان آخر، يبتعد كل البعد عن ذلك الذي حلم به الذين خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير والإصلاح، مستفيدة من العديد من العوامل التي صبت في مصالحها، أبرزها قد يكون عدم قدرة الحراك الشعبي على إنتاج مشروع موحّد، نظراً إلى أنه يمثّل مكونات المجتمع بخلافاته السّياسية المعروفة حول القضايا الأساسية التي هي موضع إنقسام عامودي منذ العام 2005.
على الرغم من أهمّية هذا العامل، إلا أنّ هناك مؤثّرات أخرى نجحت في دعم موقف تلك القوى على مدى أشهر طويلة، منها تفشي فيروس كورونا المستجد والتداعيات التي ترتبت عليه بالنسبة إلى تراجع حدّة التحركات في الشارع، في حين وجدت الأحزاب والتيارات السّياسية في هذا العامل فرصة ذهبيّة لإعادة إنتاج نفسها، من خلال سعيها إلى الظهور في مظهر القادر على الحلول مكان الدولة، الأمر الذي تأكّد عدم صحته بعد أشهر قليلة، من خلال الكارثة الطبّية التي وصل إليها لبنان.
من الناحية العمليّة، يمكن إعتبار أنّ العامل الأبرز، الذي بدأت نتائجه بالظهور في المرحلة الراهنة، هو حدّة الإنهيار الإقتصادي والإجتماعي، الذي حوّل فئات كبيرة من اللبنانيين إلى متسوّلين يتقاتلون في المحلاّت التجاريّة والسوبرماكات للحصول على السلع المدعومة، في ظل الإرتفاع الهائل في الأسعار مقابل إنهيار قيمة الرواتب والأجور بشكل مخيف، في حين بدأ القسم الأكبر في التفكير بالخروج من هذه "المطحنة" عبر الهجرة إلى أي مكان آخر.
هذه "المطحنة"، التي قضت على آمال الآلاف من اللبنانيين، تتحمل غالبية القوى السياسية المسؤولية عنها، سواء كانت مشاركة فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي كان من المفترض أن تكون مسؤولة للبحث عن الحلول التي تقود إلى الخروج منها، طالما هي لم تقرر الخروج من الحياة السياسية حتى الآن، لا الوقوف موقف المتفرّج وترديد العبارات التي يتحدّث عنها المواطنون في يومياتهم، أو تقديم التبريرات التي لا تغني أو تسمن عن جوع.
أبعد من ذلك، بعد أكثر من عام ونصف العام لم يقدّم أي فريق سياسي مشروعاً واحداً لكيفيّة الخروج من الأزمة، لا بل أنّ الغالبية لا ترى أيّ حلّ إلا بالعودة إلى الصيغ نفسها لتأليف الحكومات، ولو كان الأمر يحمل في طياته بعض الخجل عبر رفع شعار الاختصاصيين غير الحزبيين، غير آبهة بكل ما يحصل على المستوى الشعبي، نظراً إلى أن في جعبتها الورقة "السحريّة" التي تستطيع من خلالها إعادة تكريس نظام الزبائنية.
على مدى سنوات طويلة، كان هذا النظام يرتكز على التعامل مع مؤسسات وأموال الدولة على أساس أنها "البقرة الحلوب"، عبر تحويلها إلى المحاسيب من مؤيّدي تلك القوى بعيداً عن معايير الكفاءة والنزاهة والشفافيّة، وفق منطق فيدراليّة الطوائف التي يتمّ تقاسم الحصص بناء عليها، أما اليوم مع شحّ موارد تلك "البقرة" فإن هذا النظام يبحث عن إعادة بناء ذاته وفق المنطق الفيدرالي نفسه، لكن على أساس ما يعرف بـ"كرتونة الإعاشة".
وانطلاقاً من ذلك، سيكون لكل طائفة أو حزب، في المرحلة المقبلة، "كرتونته" أو برنامجه الخاص في توزيع الحصص الغذائيّة على المحاسيب مقابل الإستمرار في الحصول على الولاء والتأييد، وبالتالي عدم رفع السقف عالياً للحصول على الحقوق الطبيعيّة التي من المفترض أن تقدّمها الدولة، ولاحقاً هذه "الكرتونة" ستنتقل إلى قطاعات أخرى، كالصّحة والأمن بالدرجة الأولى.
في المحصّلة، قد يكون من المفيد أن تبدأ تلك القوى منذ اليوم التفكير في كيفية صياغة برامجها الإنتخابيّة، في حال حصول الإنتخابات النيابية في العام المقبل، لكن ليس عبر طرح المشاريع والشعارات الرنّانة التي تريد أن توهم الناخبين بها، بل عبر تقديم قائمة بالمحتويات التي تتضمنها "كرتونتها"، كي يكون للمواطنين الحقّ في إختيار تلك التي يراها الأفضل بالنسبة إليه.