بعد طول "انكفاء"، قد تكون له أسبابه واعتباراته، عادت "الحركة" على خطّ السياسة السعودية إزاء لبنان لتُرصَد خلال الأيام القليلة الماضية، من خلال موقفَين لافتَين لكلّ من ولي العهد محمد بن سلمان ووزير الخارجية فيصل بن فرحان، معطوفَين على "حراك" السفير السعودي في لبنان وليد بخاري، الناشط بلقاءاته وتحرّكاته المكثَّفة منذ فترة غير قصيرة.
كسر السعوديون "انكفاءهم" من خلال "تواصل" طال انتظاره بين وليّ العهد والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حضر الملفّ اللبنانيّ طبقًا أساسيًا على مائدته، ولو غُيّب عن البيان السعودي الرسميّ، بخلاف بيان قصر الإليزيه، الذي أكد توافق الجانبيْن على وجوب تشكيل حكومة ذات مصداقيّة، قادرة على تنفيذ خريطة الطريق للإصلاحات المطلوبة للنهوض.
وعلى الخطى نفسها، سار وزير الخارجية السعودي بتصريحاتٍ لافتة عن لبنان، ركّز فيها أيضًا على "الأجندة الإصلاحيّة"، حيث أشار إلى أنّ السعودية مستعدة لدعم أي شخص في لبنان سيتمكن من تبنّي أجندة إصلاحية، وهي لا "تقف خلف أفراد"، وستكون جاهزة للوقوف "خلف لبنان" إذا ما اتخذت الطبقة السياسية "خطوات حقيقية لمعالجة مشاكل البلد".
وبقدر الأهمية التي يمكن أن تُعطى للموقف السعودي، الذي قد يراه البعض قديمًا جديدًا في آن، فإنّ الأهمية الأكبر تُعطى لردود الفعل عليه، والتي بدت "معاكسة" للاصطفافات التقليدية، حيث سُجّل "صمت" لرئيس الحكومة المكلَّف، مقابل "تهليل" من جانب رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، الذي سأل ما إذا كان الحريري "سيلتزم" بمقتضاه...
ثوابت ومفارقات..
في المبدأ، وقبل الغوص في ردود الفعل والانطباعات، وربما في التوظيف والاستغلال الذي تعرّض له الكلام السعوديّ، لا بدّ من التوقف عند المعاني والدلالات السياسيّة التي ينطوي عليها، باعتبار أنّه يشكّل "تغييرًا"، يكبر أو يصغر حجمه، ولو في الشكل فقط، باعتبار أنّه جاء ليكسر ما يشبه "القطيعة" التي أعلنتها السعودية مع السياسة اللبنانيّة منذ فترة.
من هنا، يضع البعض الكلام السعوديّ المُباح في إطار "انعكاسات" التواصل بين الرياض وباريس، الذي توّج بالاتصال بين ماكرون وبن سلمان، حيث يتحدّث العارفون عن "طلب مباشر" وجّهه الفرنسيّون للسعوديين، من أجل الضغط على الأفرقاء السياسيّين في لبنان، وعدم الاكتفاء بـ"التطنيش والتجاهل"، علمًا أنّ هناك من يجزم بأنّ "صبر" الفرنسيّين قد "نفد"، ما دفعهم إلى اللجوء إلى السعوديين، بوصفهم "الخرطوشة الأخيرة".
ولعلّ "الحياد" الذي انطوى عليه الكلام السعوديّ يأتي من هذا المُنطلَق بالتحديد، حيث جاء "متناغمًا" بشكلٍ أو بآخر، مع المبادرة الفرنسية لحلّ الأزمة اللبنانيّة، وقبل ذلك، مع رؤية المجتمع الدوليّ برمّته إلى الواقع اللبنانيّ، والتي تقوم على مبدأ أنّ الكرة ما زالت وستبقى في ملعب الأفرقاء اللبنانيّين أنفسهم، الذين عليهم أن يبادروا بتنفيذ الإصلاحات الموعودة، وبالتالي أنّ أيّ دعم لن يُقدَّم لهم بالمجان، من دون "ضمانات" واضحة وشفّافة في هذا الإطار.
من هذه الزاوية، لا يبدو أنّ الموقف السعوديّ المستجِدّ إزاء لبنان، ولو اختلف من حيث الشكل، حمل "انقلابًا"، خصوصًا أنّ وزير الخارجية السعودي "تعمّد"، وهو يصوّب على الطبقة السياسيّة اللبنانيّة، تخصيص "حزب الله"، في إشارة واضحة إلى أنّ الرياض لا تزال على موقفها من الحزب، "الذي يتمتع بحكم الأمر الواقع وحقّ الفيتو على كل ما يجري في البلد، ويسيطر على بنيته التحتية الرئيسة"، وفقًا لكلام بن فرحان.
"تحوّل جذري"؟!
انطلاقًا ممّا سبق، قد لا يكون الموقف السعوديّ الجديد إزاء لبنان حمل فعليًا، بين طيّاته، "تحوّلًا جذريًا" كما أوحى البعض، لكنّ من يطّلع على ردود الفعل عليه، يشعر أنّ "انقلابًا فعليًا" قد حصل، وهو ما يتجلّى من خلال "صمت" رئيس الحكومة المكلَّف، الأقرب إلى "الامتعاض الضمنيّ"، و"ترحيب" خصمه الأول، الوزير باسيل، الأقرب إلى "الزكزكة السياسية"، واللذين دخلا في "معركة كلاميّة" مستجدّة، محورها "تفسير" الكلام السعوديّ.
فبالنسبة إلى "التيار الوطني الحر"، ثمّة "تحوّل واضح" في اللهجة السعوديّة لا بدّ من الوقوف عنده، وفهم معانيه وأبعاده، لأنّ ما كان يُنسَب لمصادر عن "تباعد" بين السعودية والحريري، بات "رسميًا" اليوم، وموثّقًا بتصريحات من كبار المسؤولين في المملكة، بدليل إعلان وزير الخارجية صراحةً أنّ السعودية "لا تقف خلف أفراد"، في ما بدا "تكتيكًا دبلوماسيًا" للقول إنّ السعودية "لا تقف خلف الحريري".
ولأنّ أوساط "التيار" لا تزال مصرّة على أنّ "العقدة الحقيقية" التي تحول دون تأليف الحكومة، تكمن في انتظار الحريري "مباركة" الرياض له، ودعمها الصريح له، فإنّ ما صدر عن الرياض في هذا الصدد يتّخِذ برأي المحسوبين على "التيار" أهمية مضاعَفة، ينبغي على الحريري نفسه أن يقرأها قبل غيره، والأهم أن يعمل بمقتضاها، بما يتيح "تحرير" الحكومة، وعدم إبقائها "رهينة" علاقاته الشخصيّة الملتبسة.
لكنّ موقف "التيار" هذا لا تفسير له لدى خصومه، ولا سيّما المحسوبين على "المستقبل"، سوى على أنّه "محاولة للتذاكي" لا تغني ولا تسمن من جوع، علمًا أنّ "العهد" يستطيع "قطع الطريق" على الحريري، إن كان مقتنعًا بهذه النظرية، عبر إعادة النقاش بالصيغة الحكوميّة التي قدّمها رئيس الحكومة المكلَّف لرئيس الجمهورية، بما يفضي إلى "إحراجه"، بالمفهوم "البرتقالي"، وفق ما يقول "المستقبليّون".
وفي حين يؤكد "المستقبل" أنّه لم يقرأ في الموقف السعودي أيّ "رسالة سلبيّة" للحريري، لأنّه انطلق من روحية المبادرة الفرنسية التي يتمسّك بها ويعمل بمقتضاها، يعتبر أنّ على "التيار" قراءة الموقف السعوديّ بكلّيته، بدل اختيار أجزاء محدَّدة منه، تخدم "حربه الشخصيّة" مع الحريري، متناسيًا أنّ مثل هذه الحرب لم يعد لها "قيمة" أمام معاناة اللبنانيّين، الذين لم يعودوا قادرين على الصبر أكثر.
معسكران.. وحروب لا تنتهي
التهى اللبنانيون في الأيام القليلة الماضية بمحاولة تفسير وتأويل، وربما تحوير، الموقف السعوديّ، معتقدين أنّهم قادرون من خلال ذلك، على "فكّ شيفرة" حكومتهم، التي يصرّون على ربطها بمواقيت خارجية واستحقاقات دوليّة وإقليميّة، ولو أنّ لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وكما يتعاملون مع كلّ الأحداث القريبة والبعيدة، انقسموا سريعًا إلى معسكرين، وجد أحدهما في الكلام السعودي، "إنذارًا" إلى فريقٍ من اللبنانيّين، ولا سيما فريق "العهد"، يتلاقى مع تلويح الفرنسيّين بـ"عقوبات"، قيل إنّ الوزير السابق جبران باسيل قد يكون المُستهدَف الأول فيها.
أما المعسكر الثاني، فاختار "توظيف" هذه التصريحات بما يخدم "تصفية الحسابات" الشخصية مع الحريري، الذي يبدو أنّه فقَد "الحيثيّة" التي كانت توفّرها له السعوديّة، باعتبار أنّه "رجلها الأول" في لبنان، في حين ترفض أن تمنحه دعمها اليوم، على "شيك من بياض".
وبين هذا وذاك، بقي "الإشكال الأكبر" يكمن في أنّ أحدًا لم يأخذ بالاعتبار أنّ الموقف السعوديّ، مثله مثل الفرنسيّ والأميركيّ وغيرهما، يرقى ليكون "إنذارًا جديًا" للبنان، أقلّه بالمعنى المجازيّ، بعدما وقع الانهيار، وبات على الأفرقاء في لبنان حزم أمرهم، فهل من يتّعِظ؟!.