لا شكّ أنّ شعار "التدقيق الجنائي" يُغري الرأي العام اللبناني المُتلهّف لرؤية مُطلق أيّ سارق للمال العام خلف القضبان، ولتلقّي مُطلق أيّ تفسير عمّا حلّ بأمواله المُودعة في المصارف. والأكيد أنّ موضوع "التدقيق الجنائي" سيبقى مرفوعًا بقُوّة في خضمّ السجالات السياسيّة الحادّة الحاصلة حاليًا، في ظلّ مُحاولات تنصّل وتهرّب من الموضوع من بعض الجهات، وفي ظلّ تبادل للإتهامات وللمسؤوليات بين جهات عدّة أخرى. فهل يُمكن أن نأمل خيرًا من هذا الموضوع الحسّاس والمهمّ جدًا؟.
لا يختلف إثنان أنّ الفساد مُستشرٍ في لبنان، في الكثير من المؤسّسات الرسميّة، وهو ينسحب على مسؤولين كبار نزولاً إلى مُوظّفين صغار أيضًا. وبالتالي إنّ "التدقيق الجنائي" هو المدخل الطبيعي لأي إصلاح، لكنّ المُشكلة أنّ شبكات الفساد تتمتّع بقُوّة كبيرة تُمكّنها من النفاذ من أي مُحاسبة، خاصة من خلال اللجوء إلى الحمايات السياسيّة وإلى الحمايات الطائفيّة والمذهبيّة. وهنا لبّ المُشكلة، لأنّ التعامل مع "التدقيق الجنائي" من خلفيّة سياسيّة أو طائفيّة يؤدّي إلى إجهاض أي أمل بالمُحاسبة بشكل تلقائي، وأي مُحاولات لتصفية الحسابات السياسيّة والشخصيّة أو لتمرير الرسائل السياسيّة من بوّابة "التدقيق الجنائي" يعني حُكمًا نسف هذا التدقيق قبل بدايته. وهذا ما حصل في السنتين الماضيتين، وهذا ما هو مُرشّح لأن يستمرّ في المراحل المُقبلة، طالما أنّ الضغط في موضوع "التدقيق الجنائي" يصبّ في خانة مُحدّدة.
"التيّار الوطني الحُرّ" يعتبر أنّ "التدقيق الجنائي" يجب أن يبدأ من مصرف لبنان، لتحديد كل عمليّات الهدر والسرقة من "مَنبعها"-إذا جاز التعبير، لأنّ أموال كل مؤسّسات الدولة تأتي من هناك. وخُصوم "التيّار" يردّون بأنّ التدقيق الجنائي يجب أن يشمل كل الوزارات والمؤسّسات، وليس مصرف لبنان فحسب. وإذا كان هذا المطلب يبدو منطقيًا، فإنّ المخاوف مُبرّرة من أنّ تكبير الحجر قد يؤدّي إلى إفشال مُحاولات إصابة الهدف المَنشود. والخلاف لا ينحصر بالمدى الجغرافي الذي يجب أن يتمّ فيه هذا التدقيق، بل يشمل المدى الزمني أيضًا، حيث يتمّ طرح تواريخ مُختلفة لهذا الأمر، منها مثلاً إعتبارًا من العام 2005، وإعتبارًا من العام 1992، وحتى إعتبارًا من العام 1988 وكذلك من العام 1982، إلخ. علمًا أنّ في كل تاريخ من التواريخ المَذكورة أعلاه، تُوجد خلفيّة سياسيّة مُبيّتة، ويوجد إستهداف لبعض الشخصيّات!.
هكذا سُرقت الأموال...
أكثر من ذلك، يظنّ جزء كبير من الرأي العام اللبناني أنّ سرقة أموال الدولة اللبنانيّة وأموال المُودعين في المصارف، تمّت من جانب المصرف المركزي أو المصارف أو هذا الفريق السياسي أو ذاك، علمًا أنّ هذه السرقة المَوصوفة لعشرات مليارات الدولار تمّت بالتكافل والتضامن بين العديد من الجهات السياسيّة والمصرفيّة والإداريّة، إلخ. وليس بسرّ أنّه منذ إنتهاء الحرب في العام 1990، كانت مصاريف الدولة السنويّة تفوق مداخيلها بأشواط، وهذا الفارق كبر كثيرًا مع إزدياد الدين العام بشقّيه الداخلي والخارجي، ومع العجز عن اللحاق بالفوائد الهائلة التي ترتبّت عنه. وعلى اللبنانيّين أن يعرفوا أنّ الميزانيّات التي كانت تُصرف مثلاً لوزارة المُهجّرين ولمجلس الجنوب ولوزارة الطاقة والمياه ولمجلس الإنماء والإعمار، وغيرها الكثير الكثير، كانت تُموّل من مصرف لبنان، من أموال إستدانها من المصارف، وتعود إلى المُودعين. ومع الوقت، زاد حجم هذه الإستدانة، في ظلّ مُواصلة المصارف جريمة تمويل المصرف المركزي، على الرغم من معرفة جمعيّة المصارف أنّ الدولة عاجزة عن إعادة الدين، وفي ظلّ مُواصلة السُلطات التنفيذيّة والتشريعيّة المُتعاقبة جريمة توفير الغطاء السياسي لهذه السرقة الموصوفة. وقرار تجميد سعر الصرف عند 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد كان يُموّل من هذه الأموال، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عمليّات شراء الفيول والمازوت. وبعد وقف دعم سعر الصرف، تواصلت عمليّات دعم فارق السعر على مُستوى المُشتقّات النفطيّة والأدوية والطحين وبعض السلع الغذائيّة الأخرى، إلخ. وحتى الأمس القريب، كانت هذه السياسة المُدمّرة مُتواصلة، وآخر تجليّاتها سلفة المئتي مليون دولار أميركي لصالح مؤسّسة كهرباء لبنان.
والمُشكلة أنّه إذا بقيت الأمور على هذا المنوال من عجز وسوء إدارة من جانب السُلطة، لن تبقى ليرة واحدة من أموال الناس! والأخطر أنّه إذا بقيت الأمور على هذا المنوال من خلافات ومن تصفية حسابات، لن يحصل "التدقيق الجنائي" وستبقى العراقيل موضوعة أمام أيّ مُحاولات جدّية للمُحاسبة.
يُذكر أنّ "التدقيق الجنائي" لا يجب أن يشمل مصرف لبنان ومُختلف الوزارات ومؤسّسات الدولة فحسب، بل يجب أن يطال كل سارق "صغير" أيضًا. فأي موظّف في السلك العسكري أو في السلك القضائي أو في أي وزارة أو مؤسّسة رسميّة أو هيئة شبه رسميّة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر وزارة الماليّة، ووزارة المُهجّرين، ووزارة العمل، ومؤسّسة الضمان الإجتماعي، والمديريّة العامة للشؤون العقاريّة، ومجلس الجنوب، ومجلس الإنماء والإعمار، إلخ. يجب أن يكون محط مُساءلة تلقائيًا في حال ظُهور أي علامة ثراء غير مُبرّرة على نمط حياته وحياة أفراد عائلته، وفي كل مدينة وبلدة وقرية تُوجد عشرات الأمثلة التي يُمكن للناس الإشارة إليها بسُهولة عن هذه الحالات الشاذة. فإذا لم يرث هذا الموظّف ثروة ما، أو إذا لم يفز بجائزة ماليّة، إنّ مصدر أمواله يجب أن يكون محلّ "تحقيق جنائي"!.
وفي الخلاصة، على الدولة أن تبدأ من مكان ما، ولكن لتحظى بدعم الناس، وبغطاء لا يُمكن عرقلته، يجب أن تنطلق عمليّات التدقيق في أكثر من موقع وفي وقت مُتزامن، وإذا كان من الصعب البدء بمُحاسبة السارقين من الأعلى نُزولاً، لا ضير في أن تبدأ هذه العمليّة من السارقين الصغار صُعودًا، بحيث يتمّ تدريجًا تفكيك شبكات الفساد التي بناها السياسيّون على مدى عُقود داخل مؤسّسات الدولة. والأهمّ من تحديد السارقين، كل السارقين، ومُحاسبتهم... وضع آلية واضحة تُحدّد كيفيّة إعادة الأموال المسروقة، وبخاصة أموال المُودعين، عبر تأسيس صُندوق لهذا الغرض يُموّل من كل الأموال والأملاك التي ستتمّ مُصادرتها من الفاسدين والسارقين!