غموض ينتظر دوره خلف الغموض، هذا ما يمكن قوله عن قضية تشكيل الحكومة في لبنان. وما يجب اعتباره مسألة بسيطة او بمثابة تحصيل حاصل في الحياة السياسية، وواجب وطني إلزامي في الحياة اللبنانية حالياً، تحوّل الى تشويق يشابه ما تحمله روايات اغاثا كريستي البوليسية التي تبقي هوية المجرم مخفية حتى اللحظة الاخيرة. في الحالة اللبنانية، فإنّ الضحية هي الحكومة ومن خلفها الشعب اللبناني بأسره (ولو انه يتحمل المسؤولية الكاملة عما يحصل له لانه منقسم على نفسه ولا يزال يلحق بالزعماء والمسؤولين ورؤساء الاحزاب والطوائف...)، اما المجرم فينتظر العالم ان تتم تسميته من فرنسا تحديداً، التي تصنف نفسها على انها "الام الحنون" للبنان والمسؤولة الاولى والمعنية مباشرة في ما يحصل فيه، خصوصاً بعد الصدمة الكبيرة التي تلقاها رئيسها ايمانويل ماكرون الذي غرق في مستنقع لم يكن يتوقعه وبات يرغب في التخلص منه بأي ثمن كان.
يبدو ان الفرنسيين قد سلّموا بأن سياسة الجزرة لم تعد تفيد، وقد اصبحوا اكثر قرباً من انتهاج سياسة العصا، وفق ما صرّح به وزير الخارجية جان ايف لودريان وتهديده بإنزال العقوبات على من يعرقل تشكيل الحكومة. ولكن، هل تسرّع المسؤول الدبلوماسي الفرنسي في كلامه؟ وهل من الممكن ان نشهد بالفعل عقوبات فرنسية واوروبية على مسؤولين لبنانيين دون سواهم؟ من المستبعد فعلاً ان نعاين مثل هذا الامر، لانه سيؤدي بطبيعة الحال الى مقاطعة قسم من اللبنانيين للفرنسيين واللجوء الى دول اخرى لتقويض النفوذ الفرنسي في لبنان، وليس من مصلحة فرنسا خسارة احد كي تستمر في اداء الدور الذي ترغب فيه، وبالتالي، لا يمكنها القيام بما قامت به ادارة الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب التي عاقبت ثلاثة وزراء سابقين دون سواهم، علماً ان الجهات السياسية التي يتبع اليها الوزراء المعنيون، لا تزال تملك علاقات وطيدة مع الاميركيين رغم العقوبات التي لم تقدّم ولم تؤخّر بشيء، فيما لا يمكن لفرنسا (ولو انها من الدول الكبرى) القيام بالمثل، لان النتيجة ستكون مغايرة بالنسبة الى اللبنانيين، فليست هي بالولايات المتحدة ولا ردة الفعل اللبنانية ستكون نفسها.
اضافة الى ذلك، اعتمد لودريان سياسة التهويل بالعقوبات منذ فترة، دون ان يحوّلها بعد الى حقيقة ملموسة، لا بل كانت فرنسا تعمل عكس ذلك كلياً، اذ استمرت محاولاتها لجمع الاضداد اللبنانيين وتذليل العقبات امام مبادرتها التي تسير نحو مصير مشؤوم. هذا الامر لا يعني ان الفرنسيين لا يعرفون المعرقلين، فهويتهم واضحة بالنسبة اليهم ولا يحتاجون الى انتظار الفصل الاخير من رواية التشكيل كي يتأكدوا مما يمتلكونه من معلومات ومعطيات، ولكن العقبة تبقى نفسها وهي ان السياسيين اللبنانيين يبدون كأحجار "الدومينو" فإذا ما سقط احد منهم من المتوقع ان يسقطوا جميعاً، والا فتحت ابواب الجحيم في لبنان على صعيد الفلتان الامني الكامل وليس على صعيد ازمة اقتصادية ومالية ومعيشية يعيشون جحيمها منذ اكثر من سنة ونصف السنة. يعرف الفرنسيون هويّة المعرقلين، ولكنهم لن يتجرّأوا ويكشفوا عن اسمائهم لعلمهم ان لبنان ليس كأي بلد آخر، فتعقيداته الطائفية والمذهبية واستقطابه لكل الدول الخارجيّة الحاضرة في كل استحقاق وازمة، كفيلة في منع جهة واحدة من التفرد بمثل هذا القرار، وحتى ادارة ترامب نفسها لم تتجرأ بمعاقبة مسؤولين بذاتهم، بل اكتفت بأشخاص من المحسوبين عليهم (ما خلا الوزير السابق جبران باسيل الذي يرأس التيار الوطني الحر وكتلة لبنان القوي النيابية)، في اجراء تراجع تأثيره بعد الاهتمام الكبير الذي حظي به عند الكشف عنه.