منذ أيام، لا حديث في لبنان سوى عن "مبادرة فرنسيّة جديدة"، مُلحَقة بتلك التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أشهر، بعيد انفجار مرفأ بيروت المروّع، والتي لم يستطِع "ترجمتها" على أرض الواقع، بفعل الشروط والشروط المضادّة التي لا تزال "تكبّل" تشكيل الحكومة.
وقامت المبادرة الجديدة، وفق ما تمّ تسريبه، على زيارة "مفترضة" لرئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل إلى باريس، حيث تجمعه القيادة الفرنسية برئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، نظرًا لـ"تشخيص" واقعيّ للأزمة، ينطلق من أنّ اللقاء بين الرجليْن قد يكون "مفتاح الحلّ".
لم يحصل اللقاء الموعود، وأرجئت الزيارة أو ربما ألغيت، رغم أنّ باسيل حرص على إبداء "الانفتاح" للاجتماع مع الحريري أو غيره، في أيّ مكان، وقيل إنّ رئيس الحكومة المكلَّف هو من "طيّر" المبادرة، تحت شعار "عدم تعويم" باسيل، والتزامًا بتعهّد سابقٍ له بعدم لقائه إلا بعد تشكيل الحكومة.
ومع "انفراط" عقد اللقاء، بدأ الحديث في الكواليس السياسية عن "بدائل" يمكن أن تبحث بها باريس، بينها دبلوماسيّ، على طريقة الذهاب إلى اجتماع موسّع بين مختلف الأطراف، بما لا "يُحرِج" الحريري، وبينها تصعيديّ، على طريقة العقوبات، التي ارتفعت وتيرة التلويح بها إلى الحدّ الأقصى في الساعات الماضية.
فأيّ الخياريْن سيغلب على الآخر في نهاية المطاف؟ وهل يمكن القول إنّ المبادرة الفرنسية الجديدة قد "فشلت" عمليًا؟ وأيّ تداعيات لمثل هذا "الفشل" على لبنان وفرنسا، على حدّ سواء؟
"رفض حريريّ"
مع بدء الحديث عن لقاء "مفترض" سيجمع كلاً من الحريري وباسيل في باريس، وبرعاية فرنسيّة، سارع رئيس "التيار الوطني الحر" ليبدي "انفتاحه"، ويؤكد أنّه "جاهز" للقاء أيّ كان، وأينما كان، إذا كان من شأن الاجتماع أن يفتح كوّة في جدار الأزمة، فيما التزم رئيس الحكومة المكلّف بالصمت.
وسرعان ما أظهرت المعطيات أنّ "صمت" الحريري كان بمثابة "رفض ضمني" لفكرة اللقاء من الأساس، وهو ما يشير البعض إلى أنّه أبلغه للفرنسيّين بكلّ وضوح وصراحة، وعلّله بمجموعة من الاعتبارات والأسباب، لعلّ أهمّها ليس رفضه "تعويم" باسيل، بل اعتقاده بأنّ اللقاء معه سيشكّل "هزيمة" له، و"مَكسَبًا" في المقابل للأخير.
ويوضح العارفون أنّ الحريري انطلق، في رفضه، من أنّ أيّ لقاء سيجمعه اليوم بباسيل، وقبل إنجازه مهمّة تشكيل الحكومة، سيشكّل إقرارًا بالحيثيّة التي يمتلكها الأخير حكوميًا، وهو الذي يرفض طلب رئيس الجمهورية الدائم بالعودة إليه في النقاش، بوصفه رئيس أكبر تكتّل مسيحيّ، وتمسّكه في المقابل بأنّ الدستور "يحصر" مهمّة التأليف بشخصه، بالاتفاق مع الرئيس.
وبنتيجة رفض الحريري، "طارت" المبادرة الفرنسيّة الجديدة، وأرجئت زيارة باسيل إلى باريس، أو ربما ألغيت، لتُستبدَل بحِراكٍ عربيّ، ومصريّ تحديدًا، وُصِف بأنّه "مكمّل" للمبادرة الفرنسيّة، وتُرجِم بزيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري، ومن ثمّ مساعد الأمين العام للجامعة العربية السفير حسام زكي، لكنّه جاء بنظر كثيرين "مخيّبًا للآمال"، بل أضيف إلى "السلبيّات" المستجدّة.
كيف ستردّ فرنسا؟
على الرغم من أنّ الرهان على الحِراك العربي لم يكن كبيرًا، نظرًا لانعدام تأثير الجامعة العربية على الواقع الداخليّ، فإنّ هناك من يعتبر أنّ الدخول المصري على الخط كان عاملًا سلبيًا "شوّش" على المبادرة الفرنسيّة، علمًا أنّ "استثناء" الوزير جبران باسيل من "أجندة" وزير الخارجية المصري، خلافًا لسائر الفرقاء لم يُفهَم في الكثير من الأوساط، سوى على أنّه إعلان "انحياز"، ما أفرغ تلقائيًّا "الوساطة" إن وُجِدت، من مضمونها.
في النتيجة، "تبدّدت" الإيجابيّة التي انطلق بها الأسبوع، وبدا أنّ فرنسا خسرت "جولة" أخرى في لبنان، علمًا أنّ هناك من بدأ الحديث عن "بديل" للقاء الحريري وباسيل، على طريقة "الاجتماع الموسّع" الذي يجمع مختلف الأفرقاء الذين سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن جمعهم في قصر الصنوبر، وحصل منهم على "التعهدات" بدعم المبادرة الفرنسية، وبما لا "يُحرِج" الحريري أو غيره.
لكنّ باريس الباحثة عن "انتصار" في لبنان، تستعيد من خلاله حيثيّتها في المنطقة، لن تقبل وفق ما يؤكد مطّلعون، بفشل جديد في لبنان، ولذلك فهي تتردد في الدعوة لأي اجتماع موسّع خشية أن يكون "رفع عتب" ويكرّر "سيناريو" اجتماعات قصر الصنوبر، التي لا يزال ماكرون عُرضة للانتقادات في داخل فرنسا بسببها، خصوصًا بعدما عجز عن تحقيق أيّ "إنجاز" يمكن أن يضعه في سجلّه.
أما "الخرطوشة الأخيرة" التي تضعها فرنسا على الطاولة، فتتمثّل بسلاح العقوبات، الذي تكثّفت وتيرة التلويح به في الأيام الماضية، بدءًا من ماكرون نفسه، إلى وزير خارجيته جان إيف لودريان، الذي بدأ يرفع اللهجة إلى مستويات غير مسبوقة. وإذا كان كلّ ما سبق يَشي بأنّ خيار العقوبات بات موضوعًا بجدية على الطاولة، فإنّ ثمّة من يحذّر في المقابل من أنّه قد لا يكون ذي جدوى.
ولعلّ خير دليلٍ على صوابيّة هذا الرأي يتمثل في التجربة التي أثبتت أنّ العقوبات قد تلعب دورًا مناقضًا، وهو ما ظهر بوضوح بعيد العقوبات الأميركية الأخيرة على باسيل، وقبله على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، والتي لم تُفضِ إلى شيء، بل إنّها أعادت الأمور إلى المربّع الأول وفق ما يقول كثيرون، بعدما كادت الطريق تُفرَش بالورود.
لا حول ولا قوة!
لا تبدو طريق الفرنسيّين عمومًا مفروشة بالورود في لبنان. ثمّة من اعتقد، قبل أشهر، أنّ البوابة اللبنانية ستكون "الأسهل" للعبور من جديد إلى المنطقة، في ذروة التقاطعات والتشابكات المحلية والإقليمية، وخصوصًا في ضوء "الكباش" بين فرنسا وتركيا.
لكن، لم تجر الرياح كما تشتهي السفن "الباريسية"، فظهرت "الألغام" من كلّ حدب وصوب، فاصطدم شعار "ساعدونا لنساعدكم" الذي رفعه الفرنسيّون في المراحل الأولى، بالتعنّت والتصلّب اللبنانيّ إلى حدّ بعيد.
بعد ذلك، لجأ الفرنسيون إلى نهج "العصا والجزرة" لعلّهم بذلك يعوّضون "الإخفاق" الذي واجهوه، فإذا بالتصلّب يزداد، والخلافات على "الحصص" تتوسّع، حتى أنّ التلويح بالعقوبات لم يفعل فِعْله، ولم يُحدِث الضغط أيّ تغيير يُذكَر، رغم كلّ شيء.
يشعر الفرنسيّون اليوم أنّ لا حول لهم ولا قوة في لبنان، بيْد أنّ هناك من يرى أنّ المشكلة تبقى في مكان آخر، خصوصًا أنّ "مفتاح الحلّ" ليس بيد باريس، ولعلّ هذا بالتحديد ما جعل الأخيرة تدقّ أبواب الإقليم، بحثًا عن "فَرَج" يبدو أنّه ما زال بعيدًا، حتى إثبات العكس...