كنا كتبنا مقالاً في السابق بعنوان «هي خدمة مدنية وليست سلطة»، ذكرنا فيه انّ مراكز المسؤولية هي خدمة عامة، حيث يتمّ تعيين أو انتخاب أشخاص لكي يخدموا مجتمعهم ومواطنيهم بتفانٍ وجهد، لتحقيق أهداف مرسومة وليس بهدف السلطة المطلقة.
لفتت نظري التجربة الرومانية في الحكم والديموقراطية وتداول السلطة، فقد أنشأ الرومان شكلاً من أشكال الحكومة - جمهورية، وساهم هذا النظام في ازدهار روما وتحويلها من مجتمع زراعي صغير الى واحدة من أكبر امبراطوريات العالم القديم. فلنتطلع الى أبرز سمات هذا النظام، فقد نستطيع ان نستوحي منه لنحوّل مراكز الحكم ومراكز المسؤولية الى خدمة مدنية فعلية وليس الى تحكّم بالشعب:
1. من يود التقدّم لمنصب او يريد الخدمة العامة من خلال مركز مسؤولية في روما، كان يُشترط عليه ان يكون ناجحاً في حياته العملية والشخصية، هذا يقلّل الإغراء لاستغلال الاشخاص لمناصبهم.
2. مراكز السلطة في روما على انواعها من القنصل وهو السلطة الاعلى، وصولاً الى كافة موظفي الفئات الاولى وغيرها مثل البريتور (القاضي)، المحتسب، والقسطور (موظف في الإدارة المالية) لا تستمر لفترة طويلة وتكون لمرة واحدة فقط، فالقنصل مدة حكمه سنة واحدة، المحتسب ثلاث سنوات. كان الرومان يؤمنون بشدة بضرورة تداول السلطة لمنع التحكّم والفساد.
3. يُعيّن مجلس الشيوخ قنصلين (حاكمين لروما) يحكمان بالتوافق، ويملك كل منهما حق النقض على الآخر، ولا يبقيان فيه أكثر من عام واحد. كما انّه بعد انتهاء سنة الحكم للقنصل، تتمّ محاسبته على القرارات التي اتخذها في فترة حكمه وتتمّ مناقشتها في مجلس الشيوخ. وبالطبع تنشأ استثناءات تبعاً لظروف معيّنة ولكنها تُعتبر خرقاً للنظام واستثنائية.
ليتنا نفكر اليوم في هذا النموذج، ونأخذ منه ما يناسب واقعنا، فهذه الطريقة اعتمدها الرومان لتصل الى الحكم شخصيات «شبعانة» أولاً، وليس هدفها اقتناص الثروة، وهذا يخفف من احتمال فساد الشخصيات التي تتولّى مركزاً عاماً، ولكنني اقترح ان تُضاف اليها الشفافية المطلقة، والتي تجعل كل اعمال السلطة تحت رقابة المجتمع مباشرة، فالمواطن هو صاحب المصلحة وهو مصدر السلطات وهو الهدف، حيث وُجدت المناصب لخدمته وليس للتحكّم به. ومن هنا ضرورة إقرار قانون الشفافية المطلقة والبيانات المفتوحة.
وبالتالي، انّ هذه الشروط، مضافاً اليها الشفافية المطلقة، تجعل منصب الخدمة العامة يستميل من يريد حقيقة خدمة المجتمع والوطن لفترة من الزمن، لأنّه سيدرك انّ المنصب ليس مهنة دائمة، بل على العكس سيضحّي، حيث سيترك مهنته لفترة زمنية محدودة لخدمة مجتمعه من خلال المركز، وبعدها يعود لعمله ومهنته.
يتمّ تخويف الشعب اليوم من انّ هذا الشخص أو غيره هو الوحيد القادر على تسلّم زمام المسؤولية، وهذا ما يبررّون به بقاءه في السلطة لفترة زمنية طويلة. وكان الرومان يؤمنون انّ لديهم ما يكفي من الشخصيات والخبرات لتأمين تداول السلطة. وأؤكّد انّ في لبنان لدينا أكثر من ذلك، لدينا كفايات وخبرات تفوق حاجاتنا، فنستطيع تبديل المراكز والوظائف في شكل دائم ويبقى لدينا فائض.
وأي مجتمع لديه عدد قليل لأشخاص يؤمّنون تداول السلطة والوظائف، هو مجتمع لا يحق له الوجود، وشخصياً لا اعرف ولم اسمع ولا اعتقد بوجود مجتمع كهذا.
اخيراً، ملاحظة مهمة، يطالب رئيس الجمهورية اليوم بشدّة بالتدقيق الجنائي وهذا من حق الشعب اللبناني، ويُشكر الرئيس لمطالبته الحثيثة هذه، ولكن أود أن أضيف الى ذلك، انّ هناك تقارير تدقيق ذكرناها مراراً لشركتي «ديلويت اند توش» و»أرنست اند يونغ» لحسابات المصرف المركزي على مدى 26 عاماً، من حق فخامة الرئيس ومن واجبه أن يفرض نشر كل هذه التقارير على كافة الوسائل الالكترونية والإعلامية، حتى تصبح في متناول الجميع، ليعرفوا مصير تعبهم واموالهم وجنى أعمارهم، وكيف حصلت المأساة التي يعيشونها حالياً.