تتوالى الأنباء المُفجِعة عن رحيل أحبّة، يُشكّل غيابهم ألماً موجعاً، في زمن أمسُّ ما نكون بحاجة إليهم في أيامنا العصيبة.
يخطف فيروس "كورونا" العلامة السيد محمد حسن الأمين (عن 74 عاماً)، حافلة بأفكاره التجدّدية في الفكر الإسلامي المُعاصر، والقضاء العادل النزيه، وتمتّعه بمزايا الأدب والشعر الابداعي، وتنوّره، وتجسيده الحوار مع الآخرين.
مسيرة حافلة بالنضال والعطاء والتضحيات، والمواقف الجريئة المُشرفة، يوم تعزّ، ويبرز فيها الفرسان من الرجال الرجال.
في مقاومة المحتل الإسرائيلي، والتصدّي للهيمنة، ورفض الإملاءات والإغراءات.
في قول الحق على الملأ، حتى لو كان ثمن ذلك ضريبة تدفع.
في نصرة المظلوم والأخذ بيده لتحصيل حقه.
في كل منها كانت فلسطين حاضرة، بل هي البوصلة، التي لا تقبل المُساومة، فالتصق السيد محمد حسن بها، وعاشها وعشقها، قضية أبديّة، وبادلته وأهلها بالمثل.
على مدى 4 عقود من الزمن تعرّفتُ خلالها عن كثب إلى العلامة الأمين، فاكتشفتُ الكثير من الخصال التي ميّزته، في جلسات لسنوات عدّة، كانت شبه يومية تمتد حتى ساعات متقدّمة من الليل.
اكتشفتُ العديد من الجوانب الإبداعية للعلامة العلم.
منذ اللحظة الأولى للقاء به تطمئن إليه، بوجهه المُشع نوراً، وتنبئك لحيته التي اكتساها البياض بخبرات السنين، وعمامته السوداء الممتدة من والده السيد علي مهدي الأمين، إلى الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، عن طريق ابنته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.
يسرّك مجلسه، ويأسرك حديثه العذب، وأسلوبه السلس، ومقاربته المتحضّرة المتنوّرة.
إنْ حدّثك في الدين، فهو عالم متنوّر، تلمس مدى تبحّره في القرآن وعلوم الفقه وأصوله.
وإنْ تطرّق إلى الأدب، فهو بحر واسع من الثقافة، فكيف إذا كان الأمر شعراً، عندها يكون الإبداع.
في القضاء، له أسلوب خاص في معالجة القضايا بحكمة ورويّة، بأدلّة وبراهين.
في الحوار، مُحاضر ومُحاور بحجّة قويّة، ويُسجّل له دوره بترسيخ الحوار الإسلامي - المسيحي والإسلامي - القومي.
في الخطابة، سيد المنبر بخطاب سياسي فاعل، داعم لبناء وطن العدالة والمساواة.
في المواقف، كان دائماً سيد الموقف الحكيم الجريء الواضح... سيد خط الممانعة والمعارضة، المعارضة الحضارية البنّاءة.
في المقاومة، هو السيد الذي واجه المُحتل الإسرائيلي بصدره العاري، بعد غزوه للبنان في حزيران/يونيو 1982، فضاق به ذرعاً مُبعداً عن صيدا في العام 1983.
في نصرة فلسطين، عندما يُذكر اسم السيد محمد حسن الأمين، تكون فلسطين حاضرة في الصميم، التصق بها ودافع عنها، ولم يحد عن ذلك في أحلك الظروف، يوم بقي مع القلّة القليلة التي لم تُغمِد خنجراً في ظهرها.
دائماً يردّد أن حركة "فتح" مفجّرة الثورة الفلسطينية، فكرة، والفكرة لا تموت.
هذه هي فلسطين التي آمن بعدالة قضيتها، وأنّ نصرها واجب مُقدّس.
ارتبط بعلاقات صداقة مع قادة الثورة الكبار، وأينما كانت تدعو الحاجة، كُنت تجد السيد الأمين فدائياً وصوتاً مدوياً بالدفاع فلسطين، بمواقف ربما أشد من الرصاص.
تنوّعت مروحة علاقات العلامة الأمين، ومكانته، لبنانياً وفلسطينياً وعربياً، اسلامياً ومسيحياً، فشكّل نموذجاً لرجل الدين المنفتح الذي فرض احترامه ومكانته حتى على مَنْ اختلف وإيّاه بالسياسة.
نحن في "اللـواء" ربطتنا علاقات صداقة مع العلامة الأمين، كانت فيها صفحات الجريدة، في كل أقسامها، منبراً لمقالات ومقابلات ولقاءات وأحاديث العلامة المفكّر المبدع، التي ستبقى أرشيفاً يوثّق حقبات وإضاءات وأفكار وطروحات نيّرة استشف بها آفاق المستقبل، لتبقى كنزاً تستفيد منه الأجيال الواعدة والمُبحرين بالعلوم.
تتعدّد المواقف المتميّزة للعلامة الأمين، لكن إنصافاً للتاريخ سأذكر بعضاً مما ربطنا بالعلامة الراحل، وعايشنا وقائعها عن كثب:
- أبلغني مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين بأنّ العلامة الأمين عاد إلى صيدا التي أُبعِدَ عنها، بعد تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 16 شباط/فبراير 1985، وأنّه "لدى وصول العلامة الأمين إلى جسر الأوّلي عند مدخلها الشمالي، ترجّل من السيّارة، وسجد شاكراً لله سبحانه وتعالى على هذا النصر.
في اليوم التالي، اصطحبني إلى جسر الأوّلي، حيث سجدنا معاً لله على دحر المحتل من صيدا وجوارها".
- كانت مواقف بارزة للعلامة الأمين عندما أطلق الرئيس العراقي صدام حسين صواريخ "سكود" على مواقع ومُنشآت للاحتلال الإسرائيلي داخل فلسطين المحتلة (18 كانون الثاني/يناير1991).
انطلقت مسيرة في صيدا، تُحيّي القصف على الأهداف الإسرائيلية، اختُتِمَتْ في شارع رياض الصلح، وسط المدينة، حيث ألقى العلامة الأمين كلمة بالمناسبة، حيّا فيها الرئيس العراقي على إطلاق الصواريخ.
بعد مواقفه هذه، تلقّى العلامة الأمين اتصالاً على رقم هاتف منزله في صيدا، وكان المُتصل رئيس "فريق المراقبين السوريين" في الجنوب - آنذاك - العقيد مصطفى الفحام "العقيد زياد"، الذي كان مُنزعجاً من مواقف وكلمات العلامة الأمين، فبادره بالتهديد والوعيد على هذه المواقف، لكن قبل أنْ يُكمِل كلامه، كان العلامة الأمين قد أنهى المكالمة بإقفال الخط.
- لم يسع إلى مركز، فخلال شهر تشرين الأوّل/أكتوبر 1995، طُرِحَ اسم العلامة الأمين لتولّي رئاسة المحاكم الشرعية الجعفرية العليا في لبنان، وقد نقل إليه قريب له في موقع المسؤولية، هذا الطرح، خلال زيارته في دارته بصيدا، وأبلغه بأنّه جرى التباحث بشأن تشكيلة المحاكم والهيئة الشرعية المركزية في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وينتظرون من سماحته اتصالاً قبل إصدار قرار التعيين لإبلاغهم المُوافقة على ذلك.
انتفض العلامة الأمين، ووقف صارخاً في وجه ضيفه، قائلاً: "أنا لا أستجدي منصباً، فإنْ كُنتُ أهلاً لذلك، فليُصدروا قرار التسمية".
- بعد سنوات من تولّي العلامة السيّد محمّد حسن الأمين مهام قاضي صيدا الجعفري منذ العام 1977، عُيّن خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1997 في مركز مُستشار في المحكمة الجعفرية العليا في بيروت.
هذا التعيين، وإنْ كان ترقية في المنصب للعلامة الأمين، إلا أنّه كان إبعاداً عن مدينة صيدا.
تشاورتُ مع صديقي عضو "تجمّع اللجان والروابط الشعبية" حسين حمود "أبو أسعد"، الذي كنتُ أتردّد وإيّاه ورئيس "التجمّع الوطني لأبناء القرى السبع" الشيخ كمال شحرور، بشكل دائم على العلامة الأمين، وبالتنسيق مع الرئيس المُؤسِّس لـ"المنتدى القومي العربي" معن بشور، بإقامة حفل تكريم للعلامة الأمين، بالتعاون مع الهيئات والجمعيات الثقافية والاجتماعية في صيدا، وهو ما جرى في القصر البلدي في مدينة صيدا، مساء يوم السبت في 6 كانون الأوّل/ديسمبر 1997، فتحوّل إلى مهرجان وفاء وتقدير من "عاصمة الجنوب" للعلامة الأمين، حيث ضاقت القاعة الكبرى للبلدية وجوانب القاعة الواسعة والقاعات المُلاصقة لها بأكثر من 1200 شخص توافدوا من مُختلف البلدات والقرى والمُخيّمات الجنوبية.
أخذ تكريم العلامة الأمين منحى شمولياً، لحجم المكانة والعلاقات والصداقات التي يتمتّع بها السيّد، والتي تمثّلت بحضور جامع شامل لمختلف شرائح المجتمع ومشاربه الرسمية والروحية والسياسية والقضائية والاجتماعية والشعبية، وفي الشهادات التي أُلقيت بحقه، وشكّلت على مدى ساعتين من الزمن إضاءات على جوانب مختلفة من شخصيته الفذة.
ووري جُثمان العلامة الأمين الثرى في مسقط رأسه بلدة شقرا، في جبل عامل، على حدود فلسطين المُحتلة، التي كان يمنّي النفس بالصلاة في أقصاها بعد تحريره من المحتل الإسرائيلي، وعلى أعتاب شهر رمضان المُبارك الزاخر بإضاءات وإبداعات السيد الجليل.
صيدا والجنوب ولبنان وفلسطين، الذين خبروا السيد وعرفوه، لا يمكن إلا أنْ يكونوا أمناء مع الأمين، ويحملون ذكريات مع الحسن، ويحفظون المواقف العادلة مع القاضي العادل، وسيبقون أحراراً كعادة السيد.