الإنسان دائم الإستنجاد بالآخر، يفتش دومًا عن حبل الخلاص، يستعطف الآخرين في الضيقات والصعاب. طبعه ضعيف في المجمل ويستقوي بالآخر، لأن إيمانه متزعزع، وثقته بنفسه معدومة.
الإنسان مجبول بالمفارقات والتناقضات. شعوبٌ بأسرها تعيش إنفصامًا في شخصية كيانها، لا تعرف ما يعود بالنفع عليها، وما الأضرار التي تتراكم عليها نتيجة القصور في الرشد وعدم الثقة بالذات وسوء الظن.
في هذا السياق يستحضرني مقالة للمطران جورج خضر عن سوء الظن، وضمّنها عبارة في متن المقال، حيث كتب: "يقولون إن بعض الظن إثم، أما أنا فأقول إن كل الظنّ إثم".
مشكلة البشرية منذ أن تكونت تكمن في سوء الظن. وهذا متروك لحرية الإنسان، الذي يسقط دائمًا أمام التجارب والمِحن. فواقع الحياة يرتّب عليهم التقوقع حينًا والإنفتاح أحيانًا. البشرية تفتش دائمًا عن سند يقويها وتعكّز عليه. فكم بالأحرى تلك التي تعيش تعددًا طائفيًا وعرقيًا ومذهبيًا.
طوائفنا تستنجد بالآخر لتقوى به على إخوتها في المواطنة، لكي تحصّن نفسها وتحمي وجودها، سيما اذا كانت محدودة العدد.
أليس هذا ما يصيبنا في هذا البلد منذ ما قبل الإستقلال ولتاريخه؟ فوطننا مجموعة فئات طائفية تستنجد بالآخر لحفظ وجودها وتمتين حضورها. ومن المعيب الإستنجاد بالغريب على حساب القريب. وإن ما نسمعه ونعاينه هذه الأيام من إتصالات وتواصل ووفود وزيارات لأجل تأليف حكومة أمرٌ معيب. حكومة على عاتقها تقع مسؤوليات كبرى، في سبيل الحدّ من الإنهيار الكامل لهذا البلد وشعبه. كل هذا التأخير استرضاء للغريب ونتيجة الإستزلام للدول والتبعيّة لها. وكأنّ شيئًا لم يتغيّر من ١٣ نيسان ١٩٧٥ إلى ١٣ نيسان ٢٠٢١.
أَلَم يحن الوقت لنرضي الله لا الدول؟
"الإحتماء بالربّ خير من التوكل على إنسان"(المزمور 118: 8). الربّ عادلٌ في أحكامه، أما نحن فقد أسلمنا أنفسنا إلى حكم الشرير وارتمينا في أحضانه، وها نحن نحصد ما زرعنا.
أَلَم تأتِ الساعة التي فيها نتعلم من أخطائنا؟ أَلَم نفقه أن الغريب لا تُهمّه سوى مصالحه الخاصة؟ حكّامنا لا يثقون ببعضهم وسوء الظن سيدٌ على تكوينهم.
لقد تعبنا ويئسنا من التبعية والزبائنية، فيبدو أن حكام هذا البلد لم يبلغوا بعد سن الرشد لينأوا بأنفسهم وبهذا الشعب من الإنبطاح والإستزلام للغريب، الذي يستفيد بدوره من غبائنا ليلعب ضد الآخر على أرضنا، ونحن ندفع الثمن الغالي لأجل أن يبقى القيّمون على سياسة البلد رهائن لدول وأنظمة وعروش.
ما الحل أمام هذه المصائب التي تأتينا من الشرق ومن الغرب. أهذا نتيجة موقعنا الجغرافي، أو نتيجة تعددنا الطائفي، أم نتيجة الولاء للغريب، أم نتيجة عبادتنا للمال، أم نتيجة الفساد المستشري، ام نتيجة تقاعس القضاء وغياب العدل، نعم إنه شيء من كل.
أضف إلى ذلك التعصّب الطائفي والمذهبي، فالغريب عرف أن يطبّق علينا المثل القائل: فرّق تسد. وهكذا دخلنا في محاور إقليمية كبيرة، وأقحمنا بأنفسنا في صراعات الأمم لغاية وغايات. فالنأي بالنفس والحياد يجب أن يطال الجميع دون استثناء، بغية الوصول إلى حلولٍ حقيقية لا مستوردة.
أرجو الله أن نبلغ يومًا سن الرشد، ونتذكر المثل القائل: "زوان بلادي ولا قمح الصليبي". فلن تستقيم أمورنا في هذا البلد إلا بالتحرر من التبعية وإرضاء أولياء الأمر. التكاتف والتعاون وشبك الأيدي والرجوع إلى حضن الوطن هذا هو المطلوب، لا الجلوس في حضن الغريب. عندها لن تستطيع أمّة على تركيعنا، لأننا بذلك نكون قد فهمنا معنى الإخلاص للوطن وللربّ الواحد، لا أن نزني بحقهما، والسلام.