"لا تدقيق جنائيًا قبل تأليف حكومة". فُهِمت هذه العبارات، المأخوذة من العظة الأخيرة للبطريرك الماروني بشارة الراعي، وكأنّها "تصويب مباشر" على فريق "العهد"، ولا سيما رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي حوّل التدقيق الجنائيّ إلى "أولوية الأولويات"، بعدما خصّه بخطاب عالي اللهجة الأسبوع الماضي، غابت عنه دهاليز الحكومة.
قال البطريرك الماروني كلامه، في معرض انتقاده للمماطلة والتلكؤ على خطّ الحكومة، ورفضه لعدم التجاوب مع الوساطات العربية والمبادرات الدولية، بما يشكّل استكمالًا لصرخة دأب على إطلاقها منذ ما قبل نهاية العام الماضي، حين حاول قيادة مساعي التأليف، من خلال تقريب وجهات النظر بين عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، دون أن يفلح.
لكنّ موقف الراعي قوبِل بما يشبه "الامتعاض" في فريق الرئيس، ولو لاذ الأخير بالصمت، تاركًا للجماهير "الافتراضية" أن تدلي بدلوها، ولو فُهِم في بعض الأحيان خروجًا عن اللياقات وتجاوزًا للأصول، بوضع رأس الكنيسة في "قفص الاتهام"، وصولاً لحدّ اتهامه من قبل بعض "المتحمّسين" بأنّه "يحمي الفاسدين"، من حيث يقصد أو لا يقصد.
لكن، بعيدًا عن الردود والردود المضادة التي حفلت بها الكواليس في اليومين الماضيين، تبدو المسألة "مبدئيّة" بالدرجة الأولى، وفق ما يرى "العونيّون" على الأقلّ، وتحديدًا على مستوى النظرة إلى محلّ "التدقيق الجنائيّ" من الإعراب الحكوميّ، لأنّ لا إصلاح من دون التدقيق، وبالتالي لا إنقاذ ولا من يحزنون، ونقطة على السطر!
التدقيق الجنائي أولاً!
بالنسبة إلى "العونيّين"، فإنّ الخلاف الحاصل في البلاد لا ينطوي عمليًا على "سباق" بين الحكومة والتدقيق الجنائي، بالمعنى الحرفيّ، وكأنّ فريقًا يريد أن تأتي الحكومة أولاً، فيما يصرّ فريق آخر على "تحصيل" التدقيق الجنائيّ أولاً، على أن ييسّر تأليف الحكومة، ولو أنّ البعض في "التيار" يرفع شعار "أعطونا التدقيق الجنائي وخذوا الحكومة".
يقولون إنّ هذا الشعار، رغم أنّه قد لا يكون أساس "المعركة"، إلا أنّه يحتمل الكثير من الدقّة، لأنّه يختصر "لبّ الصراع"، فالتدقيق الجنائيّ برأيهم، يتقدّم من حيث الأهمية على الحكومة، بكلّ تشعّباتها وتفرّعاتها، من ثلث ضامن أو معطّلٍ هنا، إلى حقيبة سياديّة أو دسمة هناك، وما بينهما من مغانم شخصية ومحاصصة طائفية وحسابات مذهبيّة لم تعد تغني ولا تسمن من جوع، مهما بدت "إغراءاتها" جاذبة وبرّاقة.
يستندون إلى خطاب رئيس الجمهورية ليشرحوا وجهة النظر هذه، فما لامهم الجميع عليه، حلفاء وأصدقاء وخصومًا، كان مقصودًا ومتعمَّدًا، في غمزٍ من قناة "تجاهل" موضوع الحكومة بالمُطلَق، لصالح الخوض في تفاصيل التدقيق. يشيرون هنا إلى أنّ فريق "العهد" وصل إلى خلاصة مفادها أنّ التدقيق الجنائيّ يأتي قبل الحكومة وليس العكس، خلافًا لما يروَّج ويُعتقَد، لأنّه ببساطة أساس الإصلاح، ومن دونه لا قيمة مرتجاة من أيّ تطوّر.
كان بإمكان عون أن يكرّر في خطابه هذا ما دأب على تكراره منذ اليوم الأول لتكليف الحريري، وأن ينفي مطالبته بالثلث، ويؤكّد تسهيله التأليف، ويسأل عن النوايا المبيّتة لرئيس الحكومة المكلَّف. لكنّه لم يفعل، وفق ما يقول "العونيّون"، ليس فقط لأنّ هذه النقاشات باتت أقرب إلى "مضيعة الوقت"، ولكن لأنّه وصل إلى "قناعة" بأنّ التدقيق الجنائي هو "كلمة السرّ"، فالحكومة وفق المقاسات "الحريريّة" لا تعني، بحسب المنطق "العونيّ"، سوى محاولة لـ"دفن" التدقيق، وتقييده وتكبيله، بما يتيح بالتالي "إفراغه من مضمونه".
بين الإنجاز والشعبويّة!
يعتقد "العونيّون" إذًا أنّ التدقيق الجنائيّ هو أساس كلّ شيء. برأيهم، لا حكومة فعليّة من دونه، سوى على شاكلة حكومات "الوحدة الوطنية" المتعاقبة التي فاقمت الأزمة ولم تعالجها. وبالتالي، فمن دونه، لا سبيل لأيّ إنقاذ، بمقتضى أيّ وساطة، خصوصًا أنّ كلّ المبادرات تضع الإصلاح شرطًا لأيّ دعم للبنان، في حين يدرك القاصي والداني أنّ التدقيق الجنائيّ، الذي بقي حبرًا على ورق بعدما أقرّته حكومة حسّان دياب، هو المَدخَل الحقيقيّ لأيّ إصلاح.
لذلك ربما، بدأ "العونيّون" قبل فترة يواجهون الحديث الدائم عن "الثلث المعطل"، الذي ينكرون المطالبة به، بحديث عن "نصف زائد واحد" يخفي "مستورًا" خلف طياته، خصوصًا أنّه يجمع وفق الصيغ المتداولة، فريق "المتضرّرين" من التدقيق، والذين يعملون منذ إقراره قبل أكثر من عام، لتركه "معلَّقًا" في الريح، وهو ما أدّى أصلاً إلى كلّ "المماطلة" الحاصلة، بدءًا من "تهريب" شركة التدقيق، وصولاً إلى زرع طريقها بـ"الألغام" من كلّ حدب وصوب.
لكنّ الصرخة "العونيّة" هذه تجد ما "يناقضها" لدى خصوم "العهد"، الذين يضعون التركيز المكثَّف على موضوع التدقيق محاولة للقفز إلى الأمام، وأكثر من ذلك، محاولة بحث عن "انتصار وهميّ" يُضاف إلى "سجِلّ الإنجازات"، وهم يذهبون لحدّ اعتبارها جزءًا من النهج "الشعبويّ" المُعتمَد في السياسة، بل نسخة عن "الإبراء المستحيل" الذي يذكر اللبنانيّون جيّدًا كيف لم يعد مستحيلاً، ووُضِع في الأدراج، بمجرّد إبرام التسوية الرئاسيّة، وما أعقبها من "شهر عسل" صمد لسنوات مع "المستقبل"، قبل أن ينفرط عقده على وقع "الانتفاضة الشعبية".
وينطلق بعض الخصوم في "استقرائهم" لهذا النهج، إلى أسلوب التعامل مع الكلام الأخير للبطريرك الماروني، الذي "لم ينطق كفرًا"، حين قال إنّ "لا تدقيق جنائيًا من دون حكومة"، في سياق إصراره على أهمية تأليف الحكومة. وإذ يرفض هؤلاء فرضية "إساءة الفهم"، يشيرون إلى أنّ ما قاله البطريرك لم يكن سوى "تحديد للأولويات"، فالحكومة تأتي أولاً، لأنّ البلد لم يعد يستطيع تحمّل "الفراغ" الذي يكاد يطيح بكلّ شيء، ومن ثمّ يأتي التدقيق وسائر الإصلاحات، بعيدًا عن "الحكم على النوايا" الذي لم يتردّد البعض في إبرامه.
خلاف يدور حول "المبدأ"
قد لا يكون البطريرك الماروني بشارة الراعي هو من قصده رئيس الجمهورية بتغريدته التي قال فيها إنّ "الفاسدين يخشون التدقيق الجنائي، أما الأبرياء فيفرحون به"، لأنّ الرئيس لا يمكن أن يتّهم البطريرك بـ"الفساد"، أو حتى بـ"حماية الفاسدين"، وفق ما يؤكد المقرّبون منه والمحسوبون عليه.
وقد لا يكون البطريرك الراعي قصد، في عظته الأخيرة، التصويب على رئيس الجمهورية، بوضعه الحكومة في المقام الأول قبل التدقيق الجنائيّ، وبالتالي قد لا يرغب فعلاً في "حماية" بعض من "تحصّنوا" خلف موقفه، ممّن قد لا يتأخّر التدقيق الجنائي في "إدانتهم" على أدائهم طيلة فترات حكمهم.
لكنّ "الرسالة وصلت"، وفق ما يقول المعنيّون في الجانبين، رسالة توحي بأنّ السباق بين المعسكرين المتنازعين وصل إلى "حماوة" قد لا تكون مسبوقة في الظاهر، لكنّه في الباطن وفي العمق، خلاف لا يزال يدور حول "المبدأ"، "مبدأ" يعتبر "العونيّون" أنّ التدقيق الجنائيّ يعبّر عنه خير تعبير، فما بعده لا يمكن أن يكون أبدًا كما قبله!.