استؤنفت مفاوضات فيينا بين إيران ومجموعة 4+1 التي تتمحور حول شروط العودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي… في ظلّ تعزّز أوراق القوة الإيرانية التي زادت من قوة وموقف المفاوض الإيراني من جهة، وأضعفت القدرة الأميركية الأوروبية في التأثير على موقف طهران من جهة ثانية.. حتى أن المراقب للمشهد يلحظ بوضوح ان واشنطن وحلفائها لم يعد لديهم من خيار سوى التراجع أمام إيران وقبول الصيغة التي ترضى بها للعودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي، إذا كانوا يريدون الحفاظ على الاتفاق والحيلولة دون انهياره سقوطه.
لماذا نخلص إلى هذا الاستنتاج؟
انّ أيّ مدقق في التطورات التي سبقت استئناف مفاوضات فيينا يتبيّن له أنّ هذه الجولة، قد سبقتها مواجهة حامية بين إيران وكيان الاحتلال الصهيوني ومن ورائه الولايات المتحدة والدول الأوروبية، في محاولة مستميتة لإضعاف الموقف الإيراني التفاوضي الذي تميّز بالثبات والصلابة في الجولة الأولى من المفاوضات في مواجهة محاولات واشنطن فرض شروطها على إيران للعودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه، وهي شروط ترفضها طهران التي تصرّ على قيام واشنطن أولاً برفع كلّ العقوبات دفعة واحدة دون ايّ تجزئة، والتأكد عملياً من رفع العقوبات، وتعويض إيران عن الأضرار التي ألحقتها العقوبات بالاقتصاد الإيراني.. عندها فقط تقرر إيران التخلي عن كلّ الخطوات التي اتخذتها بخفض التزاماتها بالاتفاق، وتعود إلى العمل به…
محاولة التأثير على الموقف الإيراني تمثلت في الاعتداءات التي قام بها العدو الصهيوني، بداية باغتيال الموساد للعالم النووي الإيراني فخري زادة، ومن ثم استهداف سفن تجارية إيرانية في المياه الدولية، وصولاً إلى عملية التخريب التي استهدفت أخيراً مفاعل «نطنز» في أصفهان، في محاولة لإلحاق أضرار جسيمة في البرنامج النووي، وبالتالي توجيه ضربة موجعة لجهود إيران في تطوير عمليات تخصيب اليورانيوم وزيادة نسبتها.. وقد جرى توقيت هذا الاعتداء على «نطنز» عشية استئناف مفاوضات فيينا لأجل إضعاف موقف إيران التفاوضي، وجعلها تبدي المرونة اتجاه الشروط الأميركية..
غير أنّ حساب الحقل الأميركي “الإسرائيلي” الغربي لم يتطابق مع حساب البيدر.. نتائج هذه الاعتداءات كانت مخيّبة تماماً لما أرادته عواصم العدوان، حيث جاء الردّ الإيراني قوياً على الرؤوس الصهيونية والأميركية الحامية، وأدّى إلى إصابتها بصدمة وصاعقة مدوية.. وتجلى هذا الردّ الإيراني في المستويات التالية:
مستوى أول، الردّ سريعاً بوضع أجهزة طرد مركزية جديدة أكثر تطوّراً من تلك التي تعرّضت لأضرار نتيجة الاعتداء الصهيوني على مفاعل “نطنز”، واتخاذ قرار برفع نسبة التخصيب إلى 60 بالمئة دفعة واحدة وهو ما عكس الجاهزية الإيرانية والتطوّر الذي أنجزته إيران على صعيد تطوير برنامجها النووي وانّ أيّ اعتداء يستهدفه لن ينجح في وقفه أو تعطيله أو تأخيره والتأثير على عجلة استمراره…
مستوى ثان، الردّ على الاعتداء على السفينة الإيرانية بضرب سفينة صهيونية قبالة ميناء الفجيرة.. وإعلان وكالة “تسنيم” الإيرانية المسؤولية عن الهجوم في رسالة نارية إيرانية قوية لكيان العدو بجاهزية طهران للردّ والمواجهة إلى أبعد الحدود…
مستوى ثالث، استهداف مركز معلومات وعمليات خاصة تابع للموساد “الإسرائيلي” في شمال العراق بالتزامن مع استهداف السفينة الصهيونية.. وذكرت قناة “العالم” نقلاً عن مصادر، أنّ الهجوم نتج عنه مقتل وإصابة عدد من عناصر القوات “الإسرائيلية”. ووصفت المصادر استهداف مركز المعلومات للموساد بأنه “ضربة جدية لإسرائيل”.
وذكر موقع “إنتل سكاي” المتخصص بمراقبة حركة الطيران والملفات العسكرية والمدنية، أنه تمّ توثيق عملية استهداف مركز المعلومات والعمليات الخاصة التابع للموساد، مشيراً إلى أنّ صور العملية ستنشر قريباً.
هذا الردّ الإيراني المتعدّد الأشكال، والصدمة التي أصابت المسؤولين الصهاينة والأميركيين والأوروبيين، خصوصاً إزاء إعلان إيران رفع نسبة التخصيب في “نطنز” إلى 60 في المئة، دفعهم إلى اتخاذ قرار بالتهدئة ووقف التصعيد والضغط على المسؤولين الإسرائيليين بعدم الردّ على استهداف السفينة “الإسرائيلية” ووقف التصعيد.. وهو ما أكدته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية نقلاً عن مسؤول “إسرائيلي”.
انطلاقاً من ذلك فإنّ إدارة بايدن باتت خياراتها محدودة جداً، أمام تزايد قوة الموقف الإيراني التفاوضي… فهي إما تقبل بشروط إيران للعودة إلى الاتفاق النووي، أو مواجهة انهيار وسقوط الاتفاق، لأنّ واشنطن فقدت ورقة القوة المتبقية لديها للضغط على إيران وهي ورقة الحصار الاقتصادي، وذلك بعد توقيع طهران وبكين اتفاقية التعاون الاستراتيجي ببن البلدين والتي شكلت ضربة قاصمة للحصار الأميركي من ناحية، وأطلقت رصاصة الرحمة على مشروع الهيمنة الأميركي المتداعي من ناحية ثانية…
هكذا فقد عزز الاتفاق الإيراني الصيني معطوفاً على العلاقات الاستراتيجية الإيرانية الروسية… موقف إيران في إحباط الضغوط الأميركية وجعل العقوبات غير ذات تأثير على إيران.. ولهذا باتت واشنطن في موقف ضعيف في مواجهة الموقف الإيراني الذي أصبح أكثر قوة.
انّ تحرّر إيران من ايّ ضغط اقتصادي، وعلاقات اقتصادية مع الغرب من خلال الاتفاقية الإستراتيجية مع الصين للتعاون الاقتصادي بين البلدين والعلاقات الاقتصادية والأمنية المتطورة مع روسيا، واستعداد إيران لتصبح عضواً كاملاً في منظمة شنغهاي.. وامتلاك إيران قدرة الردع والدفاع عن سيادتها واستقلالها، يضع واشنطن أمام خيار وحيد وهو النزول عن أعلى الشجرة والتخلي عن عنجهيتها وقبول شروط إيران للعودة إلى الاتفاق النووي..
او أنّ إيران ستواصل خطوات خفض التزاماتها وتطوير برنامجها النووي ورفع نسب التخصيب إلى نسبة ال 90 بالمئة، وهي النسبة التي تمكنها من امتلاك كامل القدرة النووية للأغراض السلمية ودخول كلّ مجالات الصناعة النووية.. من دون أن تملك واشنطن ايّ قدرة في منع إيران من تحقيق ذلك أو التأثير على قرارها الذي بات محصّناً بكلّ عناصر القوة..
من هنا فإنّ إدارة بايدن ليس أمامها من خيارات، بعد أن صبح هامش المناورة لديها محدوداً جداً.. فالزمن لا يعمل لمصلحتها، وقدرتها في التأثير على الداخل الإيراني أصبحت ضعيفة جداً بعد نجاح إيران في إسقاط أهداف الحصار وإجهاضه.