بعد الزيارة المثيرة لوفد من "حزب الله" بدأت موسكو باستقبال شخصيات سياسية لبنانية وفق برنامج كان قد جرى وضعه بتأنٍ.
واذا كانت زيارة وفد «حزب الله» قد تناولت ما هو أبعد من الساحة اللبنانية لتصل الى الساحة السورية، فإنّ سلسلة اللقاءات مع الشخصيات اللبنانية، والتي بدأت مع استقبال الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري، من المفترض ان تنحصر نقاشاتها بالازمات الخطيرة التي تكاد تخنق لبنان وباتت تهدد وجوده.
ويضم البرنامج زيارات النائبين السابقين سليمان فرنجية ووليد جنبلاط ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، والذي حدد موعد زيارته في 29 من الشهر الجاري، اضافة الى شخصيات اخرى.
ورغم ان هذه الدعوات توحي وكأنّ للقيادة الروسية مبادرة سياسية ما لإيجاد حلول سريعة للوضع في لبنان، إلا أن ما تضمنته زيارة الحريري يخالف هذا الانطباع. قد تكون الزيارة قد خيبت آمال الحريري ولو أن اوساطه جهدت لإعطاء انطباع مخالف.
لا يتردد المسؤولون في روسيا في إبلاغ زوارهم بأنهم ليسوا بصدد الاضطلاع بأي تحرك يرقى الى مستوى المبادرة في لبنان، ولا بد ان يكون الحريري قد سمع هذا الكلام ولو انه كان مرفقاً بالتأكيد على عمق الصداقة التي تربط روسيا بلبنان، اضافة الى تمسّك القيادة الروسية بعلاقتها المتينة والمميزة مع سعد الحريري، والتي ورثها عن والده الرئيس رفيق الحريري. لكن لروسيا رؤية سياسية جديدة في الشرق الاوسط، تنطلق من التغيرات الهائلة التي أحدثتها الحرب في سوريا، والتي جعلت للنفوذ الروسي قدماً ثابتة وكبيرة في الشرق الاوسط انطلاقاً من الساحة السورية حيث الجيش الروسي وقواعده العسكرية الجوية والبحرية. وبالتالي، فإنّ روسيا، التي باعتراف دولي وخصوصاً اميركي بدورها ونفوذها في سوريا، تدرك جيداً أن الساحة اللبنانية هي ساحة نفوذ اميركية وأن اضطلاعها بأي دور في لبنان قابل للحصول في حالة من اثنين: إما بعد حصول تفاهم مع واشنطن حول المهمة المطلوبة وفي اطار تفاهمات متبادلة، أو في حال انعكست الازمات الحاصلة في لبنان سلباً على الوضع في سوريا، ما سيؤدي الى تهديد المصالح الروسية في سوريا.
فلبنان أدى ادواراً مختلفة تجاه سوريا، هو يمثل العمق الاستراتيجي لسوريا، والبعض دأب على تسميته بالحديقة الخلفية. لذلك سادت مصطلحات في مراحل مختلفة كمثل الرئة الاقتصادية لسوريا، او الخاصرة الامنية لها. من هنا الاهتمام الروسي بملف النازحين السوريين في لبنان، انطلاقاً من زاوية نظرة موسكو لدمشق لا لبيروت.
لكن هذا الملف، والذي تُبدي روسيا اهتمامها الكبير به لا سيما في الآونة الاخيرة، لا يبدو أنه في طريقه الى حل قريب. فالملف بحاجة اولاً الى الاموال. هذه الاموال مصدرها غربي وخليجي، ما يعني ان قرارها بيد واشنطن وحدها.
وطالما ان التوقيت السياسي الاميركي لم يحن أوانه بعد، فإنّ قدرة روسيا على تحريك الملف لوحدها تبقى ضعيفة. وبالعودة الى زيارة الحريري الى موسكو فهي لم تحقق اهدافها ولم تكن بحجم التوقعات، واختصرت على دعم معنوي لا اكثر وهذه حدودها.
وتردد أنّ كبار المسؤولين في روسيا نصحوا الحريري بأمرين: الاول استكشاف الرؤية الاميركية باتجاه لبنان والتصور الذي تضعه واشنطن. والثاني، السعي باستمرار لإعادة إصلاح علاقته مع السعودية وتوظيف علاقاته مع الدول الصديقة في هذا الاتجاه. وتردد ايضاً انّ المسؤولين الروس سيعملون ما في وسعهم في هذا الاطار، ولو انهم يدركون سلفاً بأن لِمَونتهم على السعودية حدود، فيما مصالح السعودية موجودة في مكان آخر أبعد من روسيا، والمقصود هنا الولايات المتحدة الاميركية. وستردد روسيا امام سلسلة زوارها من اللبنانيين بضرورة العمل لإنجاز ولادة حكومية برئاسة سعد الحريري ولا يحظى اي طرف فيها بالثلث المعطّل وتحظى بدعم الجميع، كسبيل وحيد لمنع الانفجار الذي في حال حصوله سيؤذي مصالح روسيا في سوريا. وسيوجه هؤلاء نصيحة بأن تشكيل حكومة هو السبيل الوحيد لتنفيذ اصلاحات وفتح الابواب امام المساعدات المالية والاقتصادية من اجل انقاذ الاقتصاد اللبناني من ان يلفظ انفاسه الاخيرة. والنصيحة الروسية رَددها كثيراً وكيل وزارة الخارجية الاميركية السفير ديفيد هيل خلال زيارته الرسمية الوداعية للبنان، ذلك أنّ هيل الذي يستعد لترك موقعه في وزارة الخارجية الاميركية لم يلمس من الذين التقاهم ما يشجع للافراج عن الحكومة قريباً ولو أن زيارته حققت الاهداف التي أرادها منها.
في الاول من ايلول المقبل سينتقل ديفيد هيل من القطاع العام الى العمل في القطاع الخاص وهو اختار ان يغادر السلك الديبلوماسي قبل ان يحين موعد تقاعده، مفضّلاً العمل في احد اكبر معاهد الدراسات الاميركية مع بلوغه الستين من عمره فقط. وهيل هو واحد من الديبلوماسيين القلائل الذين ما زالوا في عداد وزارة الخارجية الاميركية، والذين يعتبرون كخبراء مميزين في شؤون الشرق الاوسط، بعد ان غادر معظم هؤلاء تباعاً خلال ولاية دونالد ترامب يوم تراجع تأثير العمل الديبلوماسي على قرارات واشنطن في الشرق الاوسط.
وبعد عودته من زيارته الى لبنان، وضع هيل تقريره ورفعه الى رؤسائه، هو اعتبر أنّ الزيارة حققت اهدافها لناحية النقاط التالية:
1 - واشنطن لن تتخلى عن لبنان ولو أنه ليس اولوية في المرحلة الراهنة.
2 - طريق الانقاذ الوحيد هو تشكيل حكومة بعيدة عن تأثير القوى السياسية تعمل على البدء بالاصلاحات المطلوبة، وهو ما سيفتح الباب واسعاً امام المساعدات من المؤسسات المالية الدولية، وفي طليعتها صندوق النقد الدولي اضافة الى الدور الرقابي والمساعد الذي يُبدي البنك المركزي الاوروبي استعداده له.
3 - أيّاً كان المنحى الذي ستتخذه الاحداث في لبنان، فإن واشنطن مهتمة بحماية مؤسستين أساسيتين: الجيش اللبناني ومصرف لبنان المركزي.
وفيما أخذ لقاؤه بحاكم مصرف لبنان الكثير من الجدل، فإنّ مصادر ديبلوماسية في وزارة الخارجية الاميركية تعتبر أنّ الهدف من الزيارة والاعلان عنها لم يكن لوضع خط احمر حول اشخاص بل حول البنك المركزي كمؤسسة.
ووفق اجواء واشنطن فإنّ اللقاءين الاكثر افادة اللذين عقدهما كانا مع الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط، أمّا اجتماعه مع رئيس الجمهورية والذي جرى فيه التباحث حول ملف الترسيم البحري فهو كان ايجابياً اكثر مما كان يتوقعه ديفيد هيل. والواضح انّ هيل كان يقصد هنا تجميد ورقة تعديل الحدود البحرية ووضعها جانباً، وهو ما سمعه ايضاً قبل ساعات من مستشار رئيس الجمهورية سليم جريصاتي الذي سارعَ لإبلاغ هيل بأنه هو من عَمل على إيجاد الاخراج المطلوب لوضع اقتراح التعديل في الجارور، والمسؤول الاميركي الذي زار لبنان بناء على تكليف من وزير الخارجية انطوني بلينكن وليس من الرئيس الاميركي كان حريصاً على إبلاغ اللبنانيين أن المفاوضات مع ايران من الممكن ان تأخذ وقتاً أطول مما كانوا يتوقعون. وهو ما يعني ضمناً ضرورة العمل لإيجاد حلول لبنانية للأزمة السياسية التي تكاد تقتل البلد.
في وزارة الخارجية الاميركية ورشة لاختيار اسم السفير المقبل في لبنان، فبعد 4 سفيرات على التوالي، تخللهم ريتشارد جونز كسفير مؤقت ولفترة قصيرة، تتجه الادارة الاميركية لتعيين سفير جديد.