ليس مفرطاً في الادعاء بأن الجيش اللبناني في بلد كلبنان، هو بمثابة ذهبه الحقيقي، وعليه، يجب التعامل معه على هذا الاساس، اي يجب عدم المس به تماماً كما يجب عدم المس باحتياطي الذهب الذي يملكه لبنان والذي يعتبر بمثابة "الخرطوشة الاخيرة" قبل اعلانه بلداً غير قادر على ادارة نفسه، واستلامه من قبل دولة او دول عدة لتولي شؤونه وتسيير وضع اللبنانيين. قيل ويقال الكثير من الكلام عن الجيش، منه ما يعبّر فعلاً عن رغبة صادقة وحقيقية في ابعاده عن التجاذبات وبازار المزايدات السياسية ودوامات اللعبة الدولية، ومنه ما ينطبق عليه قول "حق يراد به باطل"، ومنه طبعاً الدعوة الى تسلّمه السلطة والانقلاب وحلّ مجلسي النواب والوزراء وكفّ يد رئيس الجمهورية، وهو طلب غير منطقي في لبنان، وغير معمول به في دول العالم حتى تلك التي تعتبر من الدول التي في طور النمو، لانّأيّ محاولة للجيش للسيطرة على بلد ما يجابه فوراً بحملات ودعوات من كل دول العالم بوجوب انهاء هذا التحرك الذي غالباً ما يوصف بـ"الانقلاب" وقمع الحريات، والدعوة الى اجراء انتخابات.
وفي بلد مثل لبنان، فإن دعوة الجيش الى القيام بتحرك مماثل، يعني بكل بساطة الدعوة الى ضرب آخر ملاذ للبنان ليعود الى الحياة من جديد، فلا الطائفية تسمح للجيش بمثل هذه الخطوة، ولا الانتماءات الحزبية للمواطنين ستضعه في منأى عن التجاذبات والاتهامات، ولا "الفيتو" المفروض على تسليحه كفيل في جعله يفرض سلطته بالقوة لتنظيم شؤون الناس. ويمكن القول انه ليس عن عبث استقبل قصر بعبدا في العقود الثلاثة الماضية قائدين سابقين للجيش كانا في الخدمة الفعلية، وآخر كان قد ترك القيادة لفترة طويلة من الزمن ولكنه كان يتمتع بتأييد عارم من قبل ضباط وعناصر الجيش، وهذا اعتراف ضمني من الدول الكبرى بأن الجيش هو موضع ثقة، غير ان هذه الدول سرعان ما تتخلى عن الرئيس الجديد وتتركه لمصيره في الدوامة السياسية ليدخلها وينسج تحالفات تنقله من طاولة الجيش والعسكر الى طاولة السياسة والاحزاب، مع العلم ان العرف المتبع في لبنان يعطي الموارنة (ومنهم قائد الجيش) منصب الرئاسة، ولو انه تم تعديل صلاحيات الرئيس بعد اتفاق الطائف.
وبدل نصب كمائن للجيش من خلال دعوته الى القيام بانقلاب غير مضمون النتائج، لماذا لا يتم تفعيل اتفاق الطائف والاجهزة الرقابية ابتداء من مجلس النواب؟ ولو كانت الارادة صادقة بالفعل، لماذا لا يتم تفعيل القضاء ورفع اليد عنه بدل التباكي عليه والقاء ابيات الشعر والكلام المعسول عن وضعه وقيمته، فيما هو مقيّد اليدين ومجرد شاهد على كل ما يحصل من مخالفات؟ لماذا لا يعلن المسؤولون ورؤساء الاحزاب اعتزالهم الحياة السياسية والحزبية ليدعموا الجيش بعدها في اي خيار يلجأ اليه؟.
الحقيقة ان كل الدعوات لتسلم الجيش مقاليد الحكم تدخل في اطار الكلام غير البريء، لا بل كمكيدة للجيش تهدف الى سلب لبنان آخر ورقة صالحة يعترف بها الداخل والخارج على حد سواء، ولعل الكلام الهادف والبناء الذي يوازي هذه الدعوات انما بشكل اكثر فاعلية، يكون في تحديث النظام اللبناني ككل وعدم "التذاكي" في وضع بنود دستوريّة تحتاج الى تفسيرات "أفلاطون" وكبار رجال العلم والقانون لمعرفة كيفية تفسيرها دون ان تحمل اجتهادات او وسائل عديدة لترجمتها ووضعها موضع التنفيذ، فنرتاح عندها من مطبات العرقلة الدستورية أكانت على صعيد رئاسة الجمهورية او رئاسة مجلس النواب او رئاسة مجلس الوزراء وهلم جرّا، ويتم تفعيل النظام المدني الذي يضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ويحمي القضاء من اي تدخلات سياسية وحزبية وطائفية... هذا الامر هو حلم لا يحتاج الى "مبصرين" و"مشعوذين" لمعرفة انه، وللاسف، لن يتحقق.