ليس الحضور الروسي في التفاصيل السياسية اللبنانية سوى إطار مستحدث لشكل المرحلة المقبلة على المنطقة وشكل الحسابات الجديدة فيها إذ لا توجد أي إمكانية لدراسة هذا الملف سوى من منظار البحث بالأزمة السورية وقرار روسيا القدوم إلى هذا الجزء من المنطقة بعسكرة حضورها عام 2015 ودخولها معتركاً كان بحد ذاته إعلاناً واضحاً عن رغبة لتحديد نفوذ لها فيها وعن رغبة لحماية ما يعتبر واقعاً ضمن أمنها القومي وتحديداً أمن دمشق. والأمر هنا لا يتعلق بشكل النظام بل بما يشكله الأمن السوري من نقطة ارتكاز للأمن الروسي تاريخياً، ولهذا شابت العلاقات الروسية السورية تقديرات عدة منذ بداية الأزمة، منها مَن حاول التشكيك برغبة روسيا حماية الرئيس الأسد ومنها من حاول التأكيد أن روسيا تجهز بديلاً عنه، وبالحد الأدنى فتحت باباً واسعاً من التواصل مع المعارضة السورية عملاً باعتبار هذا أحد أهم الاحتمالات التي قد تؤخذ إليه في سياق حرب كبرى لم تشهدها المنطقة وقعت على الأرض السورية حتى حسمت روسيا خيارها وفقاً لمعطى أساسي وهام وهو القتال العسكري والأرض التي كشفت وحدة النسبة الأكبر من الجيش السوري حول قيادته ورئيسه، وهو مؤشر أساسي سقط عند أول شرارات ما عُرف بالربيع العربي في مصر وتونس وباقي الدول، سمح بدراسة تموضع روسيا إلى جانب رئيس لديه مَن يقاتل معه وما يعني ذلك من إمكانية النظر لمستقبل هذه العلاقة من منظار عسكريّ أمنيّ بحت يسمح بالحفاظ على مقدرات الدولة السورية، والقتال من أجل عدم وقوعها بيد خصوم روسيا على البحر المتوسط، ما يسهل الوصول إليها في لحظات مصيرية. وقد حاول الأميركيون العبث بنظامها السياسيّ عبر دعم معارضين لها وتزخيم حضورهم منذ انتخابات عام 2012 الرئاسية الروسيّة الأمر الذي وتر العلاقات الثنائية بشكل كبير بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي حينها باراك أوباما.
روسيا في المنطقة اليوم وبحضور وازن في سورية وعلى علاقة ممتازة بأركان الدولة السورية العسكرية والسياسية مع تمركز لقطاعات روسيّة على البحر المتوسط وأفضلية للتنقيب على النفط الذي استقطب أكبر الدول المهتمّة إلى المنطقة تماماً كما جرت الأمور في ليبيا بعد أن تمّ طرد الروس منها مع شركاتهم لصالح الفرنسيين؛ الأمر الذي أخذ روسيا نحو يقظة غير مسبوقة من مغبة تقزيم دورها في المنطقة ونيات غربية بإعادة تموضع مقلقة أخذت موسكو نحو تعزيز حضورها في سورية وبناء تحالف استراتيجي مع الرئيس السوري.
لبنان الواقع اليوم جغرافياً ضمن هذا القطاع في المنطقة التي يعاد تشكيلها سيكون أمام صعوبة تشبه الاستحالة للبقاء على ما كانت عليه دولها سياسياً وثقافياً منذ ما بعد الانتداب الفرنسي حتى اللحظة اي ان الحديث عن بقاء لبنان ضمن الدائرة الفرنسية اليوم صار خارج التاريخ والحدث السياسيين بعد أن نجحت روسيا بفرض حضورها فيها، وبالتالي فإن أي محاولة فرنسية للدخول من البوابة اللبنانية والتعاطي معه كمنطقة نفوذ فرنسية خالصة انتهى من دون أن يعني غياب فرنسا عن لعب أدوار اقتصادية أو بما يتعلق بالتنقيب عن النفط، لكن من دون أن يقع لبنان ضمن حصتها من الكعكة التي ستقسم في المنطقة وتوزّع على الدول المنتصرة فيها وروسيا أول اللاعبين.
المحاولة الفرنسية الأولى للدخول إلى لبنان كانت عبر الدخول إليه بعد انفجار مرفأ بيروت الذي سمح بدخول العديد من المخططات الاقتصادية وغير الاقتصادية عبر بوابته، وعلى الرغم من أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زار لبنان مرتين، بقيت المبادرة التي اقترحها هشّة بشكل لافت رسم أسئلة حول قدرة فرنسا على لعب دور جدي في المنطقة وتحديداً لبنان، الأمر الذي أكد بفشلها حتى الساعة استحالة أحداث أي خرق يفصل المسارين اللبناني – السوري عن المشهد الأكبر في المنطقة، وعن مصير يرفض البعض الاعتراف بتماهيه حتى النهاية يربط مصير البلدين بشكل كبير بفعل عامل الجغرافيا.
تتشكّل المنطقة اليوم ويُعاد تموضع وتقسيم النفوذ الذي انتظرته دولها منذ العام 2011 وتتشكل معها سلسلة توازنات جديدة وما الزيارات اللبنانية الى موسكو بدءاً بوفد حزب الله والرئيس المكلف سعد الحريري والنائب جبران باسيل الا تأكيد على هذه الوجهة وما عرقلة اللقاءات الفرنسية مع بعض الجهات اللبنانية وارتباك الإليزيه الواضح الا دليل على عدم توفر الزخم الدولي والإقليمي لدعم مبادرة فرنسا في لبنان وتحميلها لاحقاً وأهمها فقدان الدعم السعودي للمبادرة الفرنسية مقابل العلاقة الممتازة بين روسيا والسعودية والإمارات في هذه المرحلة والتماهي الأساسي والمشترك بينها حيال سورية عبر بدء إشارة التوجّه نحوها بعودة العلاقات السورية الإماراتية الرسميّة ونهاية الحديث السعودي حول إسقاط الاسد والسعي باتجاه تعزيز فرص الحل السياسي.
تؤكد الأحداث التاريخية في المنطقة تفوّق الحضور السياسي وفقاً للتفوق العسكري على ما سواه بعد نهاية الأزمات والحروب وتؤكد الأحداث بما يتعلّق بلبنان، هذا الأمر بشكل لم ينسَه اللبنانيون حتى هذه اللحظة. فالوقائع قالت بحضور عثماني ففرنسي وبعده سوريّ بغض النظر عمّا يسمّى احتلالاً وبين ما يسمّى نفوذاً أو حضوراً أو دعماً، فإن الكلمة الأخيرة لطالما كانت للنفوذ الأمني والتسويات السياسية الدولية وفق منظار القوة أياً كانت أو كيفما أتت ظروفها.
الأحداث تؤكد تفوق روسيا في سورية وتؤكد على تلازم الدولتين بالنسبة للروس كقطاع أمني واحد سترفض روسيا أي دخول آخر فيه، الأمر الذي يعني ضرورة أن تكون قد نسجت موسكو طيلة هذه السنوات علاقات ممتازة مع الجوار جعلت منها وسيطاً مقبولاً بل ومطلوباً خصوصاً مع «إسرائيل» عززت فيه حضورها بين عناصرها لسنوات وما اهتمام روسيا بحزب الله ووفده سوى تأكيد على منطق الحضور من باب القوة الأمنية والعسكرية لدى الدول الكبرى، الأمر الذي جعلها تخصص حزب الله بزيارة كفريق يتطلّب التنسيق معه في لبنان وسورية أمنياً.
منطق القوة هذا والسياق التاريخي لتطور الأحداث يحتم على اللبنانيين انتظار دور بارز لروسيا في لبنان سيكون وليد تتويج نهاية النزاع في سورية بحل سياسي واضح، ومن الآن حتى ذلك الحين ستكون الساحة اللبنانية على موعد مع تمهيد لهذا الدور في كل مناسبة تجد فيها موسكو إمكانية لترجمة ذلك، ولو ملأت المشهد أدوار مؤقتة ومستقطعة لبعض الجهات..
الإدراك الروسي لكون مَن يتطلع للعب دور مرجعي في هذا الساحل المتوسطي معني بإدارة الوقائع الثابتة واحتواء ديناميكيتها وترسيم نفوذه على هذا الأساس والوقائع تقول بأن لبنان دولة أمراء الطوائف وتجب إدارة توازناته بعناية. وهذا ما يفسّر الحرص الروسي على تمييز التعامل مع الرئيس سعد الحريري الذي يمثل في المعادلة الطائفية اللبنانية الامتداد الطبيعي للغالبية العربية السنية وسط الأقليات الشيعية والمسيحية والدرزية التي تربط كلاً منها بموسكو خيوط وخطوط تاريخية أو مصلحية أو سياسية أو عسكرية أو استراتيجية واكتمال دور المرجعية وشرعنته يحتاج اعتراف المكون العربي السني الأغلبي بالحاجة للدور الروسي. وفي الوقائع الإقليمية تدرك موسكو حليفة إيران وحزب الله وسورية أن شرعية الدور المرجعي الاقليمي كهدف متوسط المدى تتوقف على التسليم الإسرائيلي بالحاجة للدور المرجعيّ لروسيا التي أظهرت حسن دراية في توظيف القلق الاسرائيلي من إيران وحزب الله لجذب الانتباه الى موسكو كما أتقنت رسم الهوامش المرضية للأمن الاسرائيلي ولو على حساب حلفائها فصارت شريكاً في أمن «إسرائيل» وكلما جرى البحث عن كيفية تركيب لبنان من جديد ستكون روسيا حاضرة ومقبولة من الجميع، وكلما صار البحث عن تركيب استقرار الإقليم من جديد ستكون روسيا حاضرة ومقبولة من الجميع.
وبين هذا وذاك يتمتع الرئيس المكلف اليوم سعد الحريري بما يحسب نقطة لحسابه قادرة على إبرام صفقات اقتصادية مع موسكو تسمح للأخيرة بدعمه وهي أدوار أكدت أوساط مطلعة لـ»البناء» على انها تتضمن دوراً روسياً في المرفأ وفي التنقيب عن النفط وغيرها من الاتفاقات الأمنية المشتركة الأمر الذي يتطلب تسهيل الحريري لهذا الدور الواقع ضمن المتغيرات المستقبلية الكبيرة في المنطقة..
السؤال عن الولايات المتحدة ودورها هنا ليس ضرباً من الخيال لأن التسليم بالحضور الروسيّ في سورية وما يعنيه ذلك من ضرورة تعزيز حضورها في المنطقة مساهمة لحماية «إسرائيل» يعطي لروسيا مشروعيّة أميركياً للقبول بدور نافذ لها في لبنان واقع ضمن الإطار نفسه، وهو التنسيق الذي يصب في مصلحة أمن «إسرائيل» أولاً على اعتبار أنها وسيط مقبول من كل الأطراف راهناً تُضاف إلى هذا النيات الأميركية بالانكفاء في هذه المنطقة وبدء إيجاد حلول واضحة لملفات كالانسحاب من افغانستان والملف النووي الإيراني والأزمة السورية بالتنسيق مع كل اللاعبين المباشرين أهمهم وأولهم روسيا..