منذ تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة، عقب اعتذار السفير مصطفى أديب عن استكمال المهمّة، تغيّرت الكثير من الأمور والمعطيات في لبنان، وفشلت جميع الرهانات على استحقاقات وأحداث محلية وإقليمية ودولية لتحقيق "خرق" في المشهد العام.
أول الرهانات وربما أبرزها كان على الانتخابات الرئاسية الأميركية. جرت هذه الانتخابات، وفاز الديمقراطي جو بايدن مطيحًا بسلفه دونالد ترامب. شهدت "ديمقراطية" العمّ سام منعطفًا مفصليًا مع "تمرّد" الرئيس الجمهوريّ، وصل إلى ذروته من خلال هجوم الكابيتول الشهير، إلا أنّ "المراوحة" بقيت سيّدة الموقف في الداخل اللبنانيّ.
ومع وصول بايدن، تحوّلت "الرهانات" إلى سياسته الخارجيّة، التي قيل إنّها ستشكّل "انقلاباً" على سياسات سلفه، ولا سيّما على صعيد العلاقة بإيران. ومع اعتماده سياسة "العصا والجزرة" مع طهران، كثُرت التكهّنات حول انعكاسات داخليّة، توّجت مع انطلاق محادثات حول الاتفاق النووي في فيينا، عجزت بدورها عن إحداث أيّ "تغيير" على خطّ الحكومة.
اليوم، يراهن اللبنانيون على تطور إقليمي جوهريّ، لا شكّ أنّه مؤثّر، وإن بقي "افتراضيًا" حتى إثبات العكس، يتمثّل باللقاء الذي قيل إنّه جمع مسؤولين سعوديين وإيرانيين رفيعي المستوى في العاصمة العراقية بغداد، والذي يُعَدّ، إن صدقت التسريبات، الأول من نوعه منذ "القطيعة" بين الجانبين قبل نحو خمس سنوات.
أهمية استثنائيّة
لا شكّ أنّ التقارب السعودي الإيراني يكتسب أهمية استثنائيّة في هذه المرحلة، خصوصًا أنّه يأتي في ظلّ كباش إقليميّ متواصل، خرقته محادثات فيينا التي جمعت أخيرًا أطراف الاتفاق النووي، ووُصِفت بـ"البنّاءة والإيجابيّة"، رغم "الغموض" الذي أحاط بها، والذي لم يَخلُ من عوامل "التوتير"، الذي لم يكن الإسرائيليّون بعيدين عنه وفق كلّ المعطيات.
ويعتقد كثيرون أنّ الحوار السعودي الإيراني المفترض يحمل بين طيّاته الكثير من مقوّمات "الصحّة"، رغم ما تسرّب عن نفي مسؤول سعودي لحدوثه، في مقابل تعمّد الإيرانيّين دبلوماسيّة "الحياد"، على طريقة "لا تأكيد ولا نفي"، علمًا أنّ مسؤولين إيرانيّين لم يتردّدوا في "الترحيب" بالوساطة العراقية لتقريب من وجهات النظر، وهو ما ثبّت فرضيّة أنّ "لا دخان بلا نار"، خصوصًا أنّ رئيس الوزراء السعودي مصطفى الكاظمي كان في الرياض منذ فترة غير طويلة.
ومن العوامل التي يرى كثيرون فيها "دفعًا" للقاء، إدراك السعوديّين والإيرانيّين وجوب "خفض التوتر" في هذه المرحلة، بعدما ثبُت أنّ الاتفاق النووي مثلاً لا يمكن أن يصمد وينجح إلا برضا الطرفين، تفاديًا لتكرار سيناريو 2015، ولو أنّ مساحات "الاختلاف" تبقى كثيرة، وتبدأ من حرب اليمن، وتمتدّ إلى البرنامج النووي الإيراني والصواريخ الباليستية، ولا تنتهيعند ما يصفه السعوديون بـ"الدور الإيراني" في المنطقة.
ولا يغيب لبنان بالمُطلَق عن أيّ حوارٍ سعودي إيراني، ولو أنّه ربما لا يحتلّ "الأولوية" فيه، خصوصًا في ظلّ النظرة إلى واقع "حزب الله" في لبنان، الذي يعتبره السعوديّون "وكيلاً" لإيران في المنطقة، علمًا أنّ أيّ تقارب بين الدولتين، لا بدّ أن ينعكس "خفضًا" للسقف العالي الذي يتبنّاه "الحزب" إزاء الرياض، والذي وصل به في بعض المحطات إلى إطلاق شعارات "معادية"، على غرار "الموت لآل سعود".
تأثير حتميّ ومباشر!
انطلاقًا من هذا الربط، لا يستبعد كثيرون وجود علاقة مباشرة بين التقارب السعودي الإيراني المحتمل والملف اللبنانيّ، والحكوميّ تحديدًا، علمًا أنّ معظم المتابعين يكادون يجزمون بأنّ "تأثير" اللقاء، إن صحّ، "حتميّ" على الداخل اللبناني، حتى لو لم يكن مباشرًا أو سريعًا، إن جاز التعبير.
ويلفت هؤلاء إلى أنّ الانعكاس الأولي لهذا التقارب سيكون على مستوى أداء رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري الذي سيشعر بـ"الراحة النفسيّة"، خصوصًا أنّه يراهن منذ مدّة على هذا التقارب، علمًا أنّ خصومه يتّهمونه بـ"احتجاز ورقة التكليف" في جيبه، لإدراكه "استحالة" إرضاء الرياض بإشراك "حزب الله" في حكومته، وعدم قدرته على القفز فوق الأخير وما يتمتّع به من حيثية تمثيليّة لا غبار عليها.
ويدفع "التيار الوطني الحر" تحديدًا باتجاه هذا الاعتقاد، فعلى رغم أنّ العلاقة بين الحريري و"حزب الله" كانت شبه ممتازة، ولم يظهر ما يوحي بوجود أيّ "عقدة" على خطّها طيلة الفترة الماضية، يصرّ "العونيّون" على أنّ المشكلة الحقيقية لطالما كانت مركّزة على وجود "حزب الله" في الحكومة، ما يعني أن التقارب السعودي الإيراني يمكن أن يكون مساعدًا في بتّ هذه المسألة، ما قد ينعكس "ليونة ومرونة" على مستويات أخرى.
بيْد أنّ هناك، في المقابل، من ينبّه إلى أنّ اللقاء السعودي الإيراني، حتى لو ثبُت حدوثه، لا يعني حلّ كلّ الإشكالات دفعة واحدة، بل إنّ هناك من أصحاب هذا الرأي من يعتقدون أنّ ورقة "حزب الله" تحديدًا قد تبقى "عالقة"، حتى يكون بالإمكان استخدامها على طاولة المفاوضات، ما يمكن أن يترك الحكومة مجدّدًا "أسيرة" الرهانات والرهانات المضادة، وهو ما قد يستغرق وقتًا طويلاً قبل أن تتكشّف معالمه.
"عِبرة" أشهر التكليف الطويلة
لا شكّ أنّ لبنان يتأثّر بشكل مباشر بأيّ تطور على خطّ السعودية وإيران، فإذا تقاربت الدولتان الإقليميتان الأساسيّتان ينعكس ذلك "انفراجًا" على الداخل اللبناني، وإذا اشتبكتا يُترجَم ذلك "توتّرًا"، تنفجر معه مختلف "الجبهات" دفعة واحدة.
يعود ذلك بشكل مباشر إلى العلاقة "العضوية" بين العديد من القوى المؤثّرة والأساسيّة مع كلّ من الرياض وطهران، فضلاً عن حجم "النفوذ" الذي تتمتّع به العاصمتان، معنويًا على الأقلّ، وقدرتهما على أخذ الأمور بالاتجاه الذي تريدانه.
ولكن، قبل هذا وذاك، إن كان من "عِبرة" أخذها لبنان من أشهر التكليف الطويلة، فهي أنّ الكرة تبقى أولاً وأخيراً في ملعبه، فتوافق كلّ القوى الإقليمية والدولية لا قيمة له، إذا لم تتوافر الإرادة الحقيقية والصادقة في الداخل للتقارب وتشكيل الحكومة.
قد يكون للسعودية وإيران "مَوْنة" على بعض القوى في الداخل، رغم تناقض ذلك مع مبدأ "حياد لبنان"، لكنّ لا شيء يُرتَجى من هذه "المَوْنة" إذا لم يقرّر اللبنانيّون الالتزام بالنصيحة الفرنسيّة، التي جفّ حبرها، وقوامها "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم"!.