بعدما باتت إسرائيل مقتنعة بأن إدارة جو بايدن في طريقها إلى العودة إلى الاتفاق النووي، بنسخته المبرمة عام 2015، لم يعُد أمامها إلّا إيفاد مسؤوليها العسكريين والأمنيين، في محاولة أخيرة لثني الإدارة الأميركية عن عملية إحياء الاتفاق «كيفما كان». وفيما تبدو تل أبيب يائسة من إمكانية نجاح محاولتها تلك، يتزايد الحديث في الكيان العبري عن الفشل الاستراتيجي في مواجهة إيران، إلى حدّ أن عاموس يادلين اعتبر أن طهران هي التي تمارس «الضغوط القصوى» حالياً على الولايات المتحدة وإسرائيل
«كلّ القيادة الأمنية في إسرائيل، من رئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، إلى رئيس الموساد يوسي كوهين، إلى رئيس هيئة الأمن القومي مئير بن شبات، وغيرهم، في طريقهم إلى واشنطن، في الوقت الذي تصل فيه المفاوضات مع إيران إلى نقطة حاسمة». بهذه العبارة، تمّ تقديم توجُّه قادة المنظومة الاستخبارية والعسكرية في إسرائيل، الأسبوع المقبل، إلى العاصمة الأميركية من أجل لقاء نظرائهم. والأهمّ من ذلك، أنهم يذهبون مع قناعة راسخة في تل أبيب بأنهم لن ينجحوا في إحداث تغيير جوهري في التوجُّه الاستراتيجي لإدارة جو بايدن.
يُشكّل هذا المشهد خلاصة إجمالية لفشل إسرائيل في مواجهة برنامج إيران النووي، وآخر محطّاته عملية نطنز التي لم تنجح في إحداث تغيير في القدرات النووية الإيرانية ولا على طاولة المفاوضات. ولعلّ من أبرز معالم ذلك الفشل، أن مَن يتحدّثون عن إنجازات إسرائيلية، بِمَن فيهم بنيامين نتنياهو، يُصوّرون أن إيران كان يمكن أن تكون أكثر خطورة على الأمن القومي الإسرائيلي، ما يعني أن «مكسب» تل أبيب يتمثّل في أن طهران لم تنتج سلاحاً نووياً، وأنها تخصّب بدرجة 60% وليس 90%، وقبلها بنسبة 20% وليس 60%.
مع ذلك، ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً، يجدر التذكير بحقيقة أن نتائج أيّ مفاوضات هي في الواقع ترجمة سياسية لمعادلات القوة ولكيفية إدارتها. انطلاقاً من هذا المفهوم، لنفترض أن إسرائيل نجحت في تعطيل منشأة نطنز، وفق المخطّط الأساسي، وأن التعطيل كان سيستمرّ لمدّة تسعة أشهر كما أملوا وتوقّعوا، ولنفترض أيضاً أن إيران ليس لديها أيّ بدائل لمواصلة عملية التخصيب، هل كانت الولايات المتحدة ستقابل العملية بالانتقاد «اللطيف» الذي وَجّهته إلى إسرائيل، أم أنها ستعمد إلى محاولة تثميرها على طاولة المفاوضات؟ وهل كانت ستوافق - إن وافقت - على ما يطالب به الطرف الإيراني من حقوق في ظلّ امتلاكه القدرة على القفز في التخصيب إلى مستويات أعلى؟ والأسئلة نفسها يمكن طرحها في شأن مواقف إدارة بايدن لو أن استراتيجية «الضغوط القصوى» التي طبّقتها إدارة دونالد ترامب نجحت في إخضاع إيران أو دفعها إلى تقديم تنازلات جوهرية.
تسلّط تلك الأسئلة الضوء على خلفية الموقف الأميركي الرسمي والعلني من الضربة التي استهدفت منشأة نطنز، وانتقاد واشنطن للتبجّح الإسرائيلي. وربّما تؤشّر، أيضاً، إلى موقف الولايات المتحدة من أيّ محاولة لاحقة، قد تدفع إيران إلى خطوات أشدّ خطورة برفع التخصيب إلى 90%، أو تكثيف كمّيات اليورانيوم المخصّب بدرجة 60%. لقد عكست نتائج اعتداء نطنر، ببعدَيها العملياتي - الميداني والسياسي - الأميركي، حجم الفشل الذي واجهته إسرائيل، التي كانت، على ما يبدو، تحتفظ بهذه الورقة لمحطّة حاسمة. وممّا يكشف حجم الرهان السياسي والاستخباراتي في كيان العدو على الضربة، تشكيك مسؤوليه في الإعلان الإيراني رفع التخصيب إلى 60%، إلى حدّ أن العديد من الخبراء والقيادات والمعلِّقين قلّلوا من إمكانية تنفيذ ذلك، ومن بينهم رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الأسبق، «أمان»، أهارون زئيفي فركش، ورئيس «معهد العلوم والأمن الدولي»، دافيد أولبرايت. وظلّت حالة الإنكار تلك مسيطرة على إسرائيل إلى أن حسمت «الوكالة الدولية للطاقة الذرّية» الأمر، وأكدت أن إيران رفعت مستوى التخصيب إلى 60٪ باستخدام أجهزة طرد مركزي جديدة ومتطوّرة. ولأن وقع المفاجأة كان شديداً، طُرحت مروحة من التساؤلات في كيان العدو في محاولة لتفسير ما جرى. ولفتت صحيفة «جيروزاليم بوست»، التي اعتبرت أن «إسرائيل نجحت تكتيكياً (مع أنه نجاح غير مكتمل) وفشلت استراتيجياً»، إلى أنه «لا يزال من غير المعروف سبب بقاء أجهزة الطرد المركزي ومصدر طاقتها الكهربائية من دون تلف: هل كان ذلك بسبب توقّفها عند وقوع الحادث، أم لأنها فُصلت عن البقية بواسطة أنظمة كهربائية أو جغرافيا منفصلة، أم لأنها كانت تُشغّل بكهرباء احتياطية احتفظت بها إيران في حال وقوع مثل هذا الحادث؟».
إسرائيل مقتنعة بأنها لن تنجح في إحداث تغيير جوهري في التوجُّه الاستراتيجي لإدارة بايدن
إزاء ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر قلقاً من تكرار مثل هذه العمليات الفاشلة، والتي قد تُعقّد المفاوضات مع الجانب الإيراني، وتمنحه المزيد من الأوراق. وبالاستناد إلى تلك الوقائع السياسية والنووية، بدأت تتبلور قناعة في تل أبيب بأن الحكومة الإسرائيلية وصلت إلى «طريق مسدود» مع إدارة بايدن، كما أكد أكثر من تقرير عبري. وهو ما يدفع إسرائيل إلى الشروع في حملة ضغوط في الولايات المتحدة، في محاولة لعرقلة العودة إلى الاتفاق النووي، أو على الأقلّ إحداث بعض التعديلات الممكنة فيه، وإن كانت لا تمثّل طموح كيان العدو. واللافت في هذا السياق، أن مسحة واقعية بدأت تتغلغل في وعي القادة الإسرائيليين؛ إذ على الرغم من موقفهم المتشدّد في شأن ضرورة أن يشمل أيّ اتفاق مع إيران مسألة الصواريخ الباليستية الإيرانية ونشاط طهران الإقليمي، إلا أنه تبيّن، خلال الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى إسرائيل، أنه سيكون من الصعب تغيير النص الأصلي للاتفاق النووي. وتفادياً لخسارة كلّ شيء في حال الإصرار على تحقيق كلّ شيء، طرح المسؤولون في إسرائيل على الضيف الأميركي «مطلباً محدّداً»، وهو «تشديد الرقابة وتوسيع صلاحيات مفتّشي الوكالة الدولية للطاقة الذرّية»، لمراقبة ما إن كانت طهران ستلتزم بالقيود التي يفرضها الاتفاق. كلّ ذلك مجتمعاً، ومعه التقديرات التي تؤشّر إلى تسارع وتيرة المفاوضات باتجاه محطّة حاسمة، دفَع القيادة السياسية الإسرائيلية إلى اتخاذ قرار بإرسال الجهات المهنية ذات الصلة إلى واشنطن، على أمل أن تنجح في إحداث تحوّل في الموقف الأميركي. واختيار الجهات العسكرية والاستخبارية يؤشّر إلى أن إسرائيل تعتمد هذه المرّة، في محاولتها التأثير في توجّهات إدارة بايدن ولو جزئياً، على مبدأ عرض المخاطر التي تنطوي عليها العودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات عن إيران.
المحطّة المفصلية التي بلغها المسار النووي الإيراني، ومعه محادثات فيينا، وفشل الخيارات والرهانات الإسرائيلية، وتداعيات إخفاق عملية نطنز، كلّ ذلك دفع أكثر من خبير ومسؤول في كيان العدو إلى اتهام الحكومة الإسرائيلية بأنها تفتقد إلى التفكير الاستراتيجي في الموضوع الإيراني، وأن ما يحكم أداءها هو التفكير التكتيكي، كما أوضح رئيس «لجنة الطاقة الذرّية» السابق في إسرائيل، جدعون فرانك. وهو ما ذهب إليه أيضاً رئيس الاستخبارات السابق، اللواء عاموس يادلين، الذي أكد أن إسرائيل ليست لديها استراتيجية في مواجهة إيران. لكن الواقع هو أن جميع تلك الأوصاف والاتهامات عادة ما يتمّ تداولها في إسرائيل في حالات الفشل الاستراتيجي. ولذا، قد يكون الأصحّ هو أن إسرائيل كانت لديها استراتيجية محدّدة المعالم والأهداف، لكن الذي حصل أنها فشلت في مواجهة استراتيجية الجمهورية الإسلامية التي لا تزال تُحقّق إنجازات تركت أثرها على تقدير كبار الخبراء في الكيان العبري، إلى حدّ أن يادلين اعتبر أن إيران هي التي تمارس الآن «الضغوط القصوى» على الولايات المتحدة، في إقرار بنجاح طهران في قلبْ المعادلة بمواجهة واشنطن وتل أبيب.