في الفاتيكان، لا في بيروت، "احتفل" رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري يوم الخميس الماضي بمرور ستّة أشهر، أي نصف عام بالتمام والكمال، على تكليفه تشكيل الحكومة، معُلنًا تلقّيه وعدًا من البابا فرنسيس بزيارة لبنان، لكن بعد إنجازه المهمّة وتشكيل الحكومة.
وعلى أهمية الزيارة ورمزيّتها، على الأقلّ من الناحية المعنويّة، إلا أنّها تأتي جزءًا من سياقٍ طويل دام ستّة أشهر، فمحطّة الفاتيكان لم تأتِ معزولة، بل جاءت بعد جولةٍ خارجيّة قادت الحريري إلى عواصم كثيرة، من دون أن تبدو "مسهّلة" لولادة الحكومة.
وإلى جانب الرحلات الخارجيّة، التي يرى كثيرون فيها "تغطية" على العجز الحكوميّ، ومحاولة من رئيس الحكومة المكلَّف لتكريس نفسه "رجل المرحلة" بالنظر إلى علاقاته الدوليّة، كانت المعارك "الدونكيشوتية" بينه وبين الفريق الرئاسيّ عنوان الأشهر الستّة المنصرمة.
فعلى الرغم من أنّ الحريري زار بعبدا مرارًا وتكرارًا، وقاطعها مرّات، إلا أنّ الخلافات بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون كانت الطاغية، بل وصلت إلى حدّ "نشر الغسيل" عبر الإعلام، حتى أنّ الإيجابية التي رُصِدت في بعض المحطات كانت "وهميّة".
ومع أنّ المبادرات والوساطات كانت ناشطة خلال الأشهر الستّة المنصرمة، بقيادةٍ فرنسيّة واضحة، ومؤازرة عربيّة وغربيّة لافتة، إلا أنّها أخفقت في "ترطيب" الأجواء، وكرّست جوًّا سلبيًا وسوداويًا، لا تبدو مقّومات تجاوزه متوافرة حتى اليوم...
ماذا تغيّر في ستّة أشهر؟
صحيح أنّ هناك في تاريخ الحكومات المتعاقبة، من ضرب رقمًا قياسيًا لم يتجاوزه الحريري، والمقصود تحديدًا هو رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام الذي احتاج لنحو 11 شهرًا حتى تمكّن من تأليف حكومته، إلا أنّ الأشهر الستّة التي لم تتألف معها حكومة "الإنقاذ" المُنتظَرة لا تبدو "طويلة" فحسب، وإنما "ثقيلة" إلى حدّ بعيد بالنظر إلى الظروف الاستثنائية والصعبة.
ولعلّ ما قد يكون "نافرًا" في المَشهَد أنّ العناوين نفسها التي أطلقها الحريري في يوم "تكليفه"، والنقاط "الاعتراضية" التي سجّلها خصومه عليه، لا تزال نفسها، من دون أيّ تعديلات جوهريّة، حتى يصحّ التساؤل عمّا تغيّر خلال الأشهر الستّة المنصرمة، بعيدًا عن "تعميق الهوة" بين الرجل وفريق "الرئاسة"، لا سيما بعد زيارته الأخيرة إلى قصر بعبدا، وما تبعها من "تصعيد" غير مسبوق بين الجانبَين.
فبالنسبة إلى الحريري، ورغم ما أثير عن "تنازلٍ" قدّمه بقبوله رفع عدد وزراء حكومته من رقم الـ18 الذي كان يضعه ضمن "شروطه المُبرَمة"، وهو ما لم يوثّقه بإعلان رسميّ، إلا أنّه لم يزِح قيد أنملة عن مواقفه الأولية وفق ما يقول العارفون، من تمسّكه بحكومة الاختصاصيّين غير الحزبيّين، وإصراره على تسمية الوزراء بنفسه، رغم "الخروقات" التي سُجّلت، ورفضه "التشاور" مع رؤساء الكتل، وعلى رأسهم الوزير السابق جبران باسيل.
أما خصوم الحريري، والذين يتّهم بعضهم رئيس الحكومة المكلّف بالسعي إلى "محاصرتهم وتكبيلهم"، خصوصًا بإصراره على تسمية وزرائهم، وتحويل الاهتمام إلى "ثلث معطل" يقولون إنهم لم يطالبوا به أساسًا، فيؤكد العارفون أنّهم أيضًا لم يعدّلوا في مواقفهم، هم الذين كانوا ضدّ تسمية الحريري من الأساس، ويسعون اليوم لدفعه نحو "الاعتذار"، بما يتيح المجال لتسمية شخصية أخرى، أكثر تناغمًا مع "العهد"، وقدرة بالتالي على تحقيق ما يصبو إليه.
"سياحة خارجية"
انطلاقًا ممّا سبق، حفلت الأشهر الستّة المنصرمة بجولات من الصراعات والخلافات والمعارك "الدونكيشوتية" التي بدت في جانب كبير منها "مفتعَلة"، وإن كانت تهدأ حينًا، وتتشنّج أحيانًا، مع تضمينها عناصر تشويقية متغيّرة، فيطلّ "الثلث المعطّل" برأسه تارةً، وتتّجه الأنظار إلى حقيبة الداخلية تارةً أخرى، وتتركّز عند "لوائح متبادلة" في آخر تجلّيات الصراع.
وعلى وقْع هذه الخلافات، حضرت جولات الحريري الخارجيّة محطّة أساسيّة في تقويم الأشهر الستّة الماضية، علمًا أنّها لطالما شكّلت مصدر "شكوى" من قِبَل خصومه، ولا سيّما في "التيار الوطني الحر"، الذين اعتبروها بمثابة "سياحة" أو حتى "شمّ هوا"، في وقتٍ يفترض به التسليم بأنّ تشكيل الحكومة لا يمكن أن يحصل سوى في لبنان، وبالتالي عليه أن يتوجّه إلى قصر بعبدا، ولا يغادره سوى بتصاعد الدخان الحكوميّ الأبيض.
ويدافع المقرّبون من الحريري عن رحلاته، استنادًا إلى ما قاله الرجل نفسه في حاضرة الفاتيكان، حين أعلن أنّ ما يقوم به هو استباق لتشكيل الحكومة لكي يباشر فورًا بالعمل عند التشكيل، وأنّه يعمل لتحقيق أهداف محدّدة تنقذ لبنان، واصفًا الانتقادات التي يواجهها بأنّها "مسيئة" للدول التي يزورها، والتي لا تزال تنتظر أن يبادر اللبنانيون إلى حلّ خلافاتهم وتشكيل الحكومة، حتى تسنح لها الفرصة لمساعدتهم.
لكنّ خصوم الحريري يعتقدون أنّ هذه الجولات الخارجية ليست سوى محاولة لـ"ملء الوقت الضائع"، وأنّ رئيس الحكومة المكلَّف يسعى من خلالها لتوظيف "علاقاته" لتنصيب نفسه "رئيسًا مكلَّفًا لا بديل له"، في حين أنّ "العقدة" الحقيقيّة تبقى كامنة في الدولة "المُستثناة" من جولات الحريري، وهي المملكة العربية السعودية، والتي يؤكد كثيرون أنّ لا حكومة ولا من يحزنون قبل حصول الحريري على "مباركة" منها لا تبدو متوافرة حتى إشعار آخر.
انهيار أخلاقي أولاً!
لم يتغيّر شيء خلال نصف عام حكوميًا، فبقيت المواقف على حالها. رئيس الحكومة المكلَّف يرفض الاعتذار، ويصرّ على تشكيل حكومة وفق تطلّعاته. رئيس الجمهورية يصرّ على "شراكته"، ويرفض التسليم للحريري بأيّ شكلٍ من الأشكال.
لم يتغيّر شيء أيضًا على مستوى الوساطات المطروحة، إذ لا تزال المبادرة الفرنسية العنوان الأساسيّ، بعدما أعلن كلّ الفرقاء التزامهم بمقتضياتها، منذ جمعهم الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون في قصر الصنوبر، من دون أن يترجموا الوعود على أرض الواقع.
لكن، في مقابل "الجمود" غير المبرَّر على الخط الحكوميّ، تغيّر الكثير في الواقع الاقتصادي والاجتماعيّ، بعدما تدهورت الأحوال أكثر، وواصلت العملة الوطنية تراجعها "الدراماتيكيّ"، مع تسجيل سعر الصرف مستويات قياسية غير مسبوقة، تبقى مرشّحة للكسر كلّ يوم.
يقول البعض، إنّه الانهيار الشامل الذي لطالما حذّر منه الخبراء، لكنّه انهيار أخلاقي قبل أن يكون اقتصاديًا واجتماعيًا، إذ يكفي أن يكون النقاش بعد ستّة أشهر ما زال متمحورًا حول الحصص والأحجام، رغم كلّ المصائب والويلات، للترحّم على بقايا الوطن!