لم ينزل قرار وزارة الداخلية السعودية منع دخول حمولات الخضروات والفواكه اللبنانية إلى أراضيها، أو العبور من خلالها إلى بلدان أخرى، ابتداءً من يوم الأحد، بردًا وسلامًا على اللبنانيّين، الذين تتوالى "المصائب" عليهم منذ فترة غير قصيرة.
ومع أنّ الرياض برّرت قرارها المفاجئ هذا، بملاحظتها "تزايد استهدافها من قبل مهرّبي المخدرات التي مصدرها الجمهورية اللبنانية، أو التي تمرّ عبر الأراضي اللبنانية، إلا أنّ الأبعاد "السياسيّة" لا تبدو بغائبة عنه، في الشكل والمضمون، وعلى أكثر من مستوى.
فحتى لو كان القرار أمنيًا تقنيًا محض، ومرتبطًا بالأمن الاجتماعي للسعودية، كما يؤكد المسؤولون في المملكة، ثمّة من يصرّ على أنّ قاعدة "القلوب المليانة" لا "الرمّانة" تنطبق حرفيًا عليه، بوصفه حلقة من "صراع" يكاد يصبح ثابتًا بين لبنان والسعودية.
ولعلّ حضور اسم "حزب الله" كمتّهَم شبه وحيد في القضية المطروحة عزّز هذا الاعتقاد، من دون انتظار أيّ تحقيقات، علمًا أنّ طريقة "المعالجة" وحدها تكاد تكون "دليلًا" على "التسييس"، وفقًا للبعض، الذين يتحدّثون عن "حصار" سعوديّ متواصل، بأشكالٍ مختلفة...
فرز "عموديّ" كامل
كما في كلّ الأمور التي ترتبط بالسعودية أو غيرها من الدول، حقّقت قضية "المخدرات" المستجدّة "فرزًا عموديًا" فوريًا للمواقف في الداخل اللبناني، بين أنصار المملكة الذين اصطفّوا مباشرة إلى جانبها، ودعمًا لقرارها "السياديّ"، ولو كان لبنان متضرّرًا، وخصومها الذين ذهبوا لوضعه في خانة "الانتقام والحصار"، بل لاعتباره "مادة ابتزاز" في مكانٍ ما.
بالنسبة إلى أنصار المملكة، فإنّ القرار يحمل بين طيّاته كلّ "المشروعيّة"، لأنّ المملكة لا يمكن أن تسكت على أيّ "اعتداء" على "أمنها الاجتماعيّ"، خصوصًا أنّه ليس الأوّل من نوعه، وسبق لها أن حثّت السلطات اللبنانيّة على وضع حدّ لعمليات تهريب المخدرات ومنعها، من دون أن تحصد أيّ نتيجة، وفق ما جاء في بيانها.
إزاء ذلك، يقول هؤلاء الأنصار إنّه كان من الطبيعي أن تنتقل القيادة السعودية إلى "خطة الردع" التي تكفلها لها القوانين، من دون أن تراعي مشاعر هذا الحليف أو ذاك الصديق، خصوصًا أنّها تعتقد أنّ هناك "استهدافًا متعمَّدًا ومباشرًا" لها من جانب فريقٍ من اللبنانيّين، يكنّ لها العداء ويطلق الشعارات المناهضة لقادتها.
في المقابل، يستغرب خصوم السعودية مثل هذا التصرّف من قِبَل دولةٍ لطالما وصفها مؤيّدوها بأنّها "مملكة الخير"، فإذا بها تعمد إلى خطواتٍ أشبه بـ"العقاب الجماعيّ" لبلدٍ كامل، سواء كان ذلك بسبب عمليّة تهريب، لا ينبغي أن يتحمّل مسؤوليتها جميع اللبنانيين، إذا ما "صَدَقت" الرواية الرسمية، أو لأسبابٍ سياسيّة، تبدو "الكيدية" حاضرة على خطّها.
ولا يرى الخصوم في الأسباب الموضوعيّة التي أعلنتها السلطات السعوديّة "مبرّرات" للخطوة التي أقدمت عليها، خصوصًا أنّه سبق أن تمّ ضبط شحن مواد ممنوعة مهرَّبة من دولٍ أخرى، من دون أن تُتّخَذ قرارات شبيهة، رغم أنّ ظروف هذه الدول أفضل بكثير من الواقع اللبنانيّ، وقادرة على "تحمّل" تبعات مثل هذا "العقاب".
قرار "انتقامي".. أم "منطقي"؟
انطلاقًا من ذلك، لا تبدو "السياسة" غائبة عن الخطوة السعودية المستجدّة، موقفٌ يكاد يصدّق عليه معسكرا المؤيدين والخصوم، ولو بنسبةٍ متفاوتة، ولو اختلف "المنطق" الذي ينطلقان منه في "تبرير" ذلك، حدّ "التناقض المُطلق"، إن جاز التعبير.
فللخصوم مثلاً وجهة نظرهم المستفيضة، التي تربط القرار السعوديّ "الانتقاميّ"، بسلسلة من الإجراءات السعوديّة، المُعلَنة أو المُضمَرة، منذ بدء "شبه القطيعة" مع لبنان، وبشكلٍ أكثر تحديدًا، منذ الزيارة الملتبسة الشهيرة لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى الرياض، والتي بات يُشار إليها بـ"الاحتجاز" في الكواليس السياسية.
وقد يكون الموقف السعوديّ في ملفّ تشكيل الحكومة، بالنسبة إلى هؤلاء، دليلًا آخر على النظرة "السلبيّة" إلى لبنان، فمع أنّ رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري يجول العالم، طالبًا وساطة من أجل تأمين زيارة له إلى السعودية، لعلّه ينجح بالحصول على "مباركة" ينشدها لتأليف الحكومة، تصرّ المملكة على "التطنيش"، رافضة إطلاق أيّ موقف مُسبَق من الحكومة، وهو ما لم تخرقه حتى "تحت ضغط" الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
في المقابل، يبدو "منطق" الحلفاء والأصدقاء مغايرًا، إذ يعتبرون أنّ السياسة قد تكون لعبت سلبًا على خط الأزمة المستجدّة، لناحية "رد الفعل" السعوديّ على "الاختراق" الذي رصدته. فلو أنّ الظروف كانت عادية والعلاقات ممتازة، لاحتوت الأزمة، وحاولت حلّها بالطرق الدبلوماسية، بعيدًا عن أيّ إجراءات عمليّة، إلا أنّها لم تفعل لانعدام "الثقة" أساسًا.
ويشير هؤلاء إلى أنّ المسؤولين اللبنانيين، وعلى رأسهم "حزب الله"، هم من يتحمّلون مسؤولية ذلك أيضًا، نتيجة "تعكيرهم" صفو العلاقات وتوتيرها، خصوصًا أنّ خطابات قادته لا تخلو من "القدح والذمّ" بالمملكة، من دون أيّ مراعاة لعلاقات الصداقة، ولا حتّى لـ"حاجة" لبنان إلى المملكة المثبتة تاريخيًا، وفق ما يقول أصحاب هذا الرأي.
"قلوب مليانة" وأكثر!
قد يكون القرار السعودي عبارة عن "رمانة" فقط، انطلاقًا من كونه "تقنيًا" محض، استنادًا إلى نجاح الأجهزة المختصة في "ضبط" شحنة مخدرات مهرّبة من لبنان، أو عبر الأراضي اللبنانية، واعتبار قيادة المملكة مثل هذا الأمر بمثابة "خط أحمر" تمّ تجاوزه.
وقد لا يحتاج قرار "تقني" من هذا النوع، أو "سياديّ" إن جاز التعبير، إلى الكثير من التفسير والتأويل، وأن يخضع بالتالي لهذا الكمّ من التكهّنات، لأنّه يمكن أن يُتّخَذ في أفضل الظروف، وحتى بين دولٍ تمتاز بعلاقاتٍ متينة، بل في "أحسن أحوالها".
لكنّ هذا القرار قد يحتمل أكثر من ذلك، عندما يرتبط بالعلاقة التي وُصفت يومًا بالعضوية بين لبنان والسعودية، وخصوصًا بالنظر إلى تداعياته "الكارثية" على بلدٍ، يتّفق الخبراء على أنّه يمرّ بأزمة اقتصادية، تكاد تكون "الأسوأ" منذ الحرب اللبنانيّة.
لذلك ربما، يصحّ وصف الأمر بأنّه "قلوب مليانة"، قد يتحمّل الطرفان المسؤولية المتبادلة عنها، لكنّ أحدًا لا يستطيع نكرانها، أو القفز فوقها، خصوصًا أنّ هناك من يعتقد أنّها أصلاً أساس "التكبيل" الحاصل في ملف تشكيل الحكومة، ولو تحت "سِتار" عُقَدٍ ظاهرة أخرى...